نقاشات ثرية وحضور واسع بمؤتمر التمويل التنموي 2025    ممدوح بن طلال.. إرثٌ لا يرحل    رصد أكثر من عشرة آلاف طائر في محمية فرسان    أمير المدينة المنورة يستقبل تنفيذي حقوق الإنسان في منظمة التعاون الإسلامي    ارتفاع أسعار النفط عند التسوية عقب خفض الفائدة الأميركية    أمين الرياض يشارك في أكبر تجمع تطوعي    النائب العام يستقبل نظيره الجورجي    288 ألف أسرة تواجه المنخفض الجوي بلا حماية أو استجابة    سفير خادم الحرمين لدى سويسرا يقدم أوراق اعتماده سفيرًا غير مقيم لدى إمارة ليختنشتاين    رينارد: اعتدنا على المواجهات الثقيلة    مدرب فلسطين: المنتخب السعودي «مونديالي»    رئيس ديوان المظالم يتفقد محاكم المدينة    «الأدب والنشر» تناقش تحديث استراتيجيتها    «الثقافة» تختم الفعاليات الثقافية السعودية في البندقية    على هامش شتاء مرات السادس.. معرض منوع لفناني منطقة الرياض    استضعاف المرأة    مستشفى الملك فهد الجامعي يعزّز التأهيل السمعي للبالغين    «طبية الداخلية» تقيم ورشتي عمل حول الرعاية الصحية    تطعيم بلا بروتين بيض    في ربع نهائي كأس العرب.. الأخضر يواجه فلسطين.. والمغرب تصطدم بسوريا    في سادس جولات اليورباليج.. مواجهة حاسمة بين سيلتيك غلاسكو وروما    في ختام مجموعات كأس الخليج تحت 23 عاماً.. الأخضر يواجه نظيره القطري للصدارة    أمير الشرقية ونائبه يعزيان العتيبي في وفاة والده    أمير جازان يرعى حفل «الداخلية» في يوم التطوع    أمير الشرقية يسلّم اعتماد "حياك" لجمعية «بناء»    زواج يوسف    الأرض على موعد مع شهب التوأميات    في ذمة الله    غرفة إسكندراني تعج بالمحبين    وسط ضغوط الحرب الأوكرانية.. موسكو تنفي تجنيد إيرانيين وتهاجم أوروبا    ترفض الإجراءات الأحادية للمجلس الانتقالي الجنوبي.. السعودية تكثف مساعيها لتهدئة حضرموت    «مسألة حياة أو موت».. كوميديا رومانسية مختلفة    بيروت تؤكد سيادتها واستقلال قرارها الداخلي.. رفض لبناني رسمي لدعوة إيران    القيادة تعزّي ملك المغرب في ضحايا انهيار مبنيين متجاورين في مدينة فاس    المملكة تعزز ريادتها العالمية في مكافحة الجفاف    «حساب المواطن»: 3 مليارات ريال لمستفيدي دفعة شهر ديسمبر    دراسة تكشف دور «الحب» في الحماية من السمنة    نائب أمير مكة: المملكة أولت خدمة المقدسات وقاصديها اهتمامًا خاصًا وجعلتها على هرم الأولوية    4% متوسط النمو السنوي لمشتركي الكهرباء    35 تريليون دولار قيمة التجارة العالمية في 2025    مادورو: نطالب بإنهاء تدخل أميركا غير القانوني والعنيف    3 % نمو بإنتاج المزارع العضوية    الأخضر تحت 23 يواجه قطر في ختام مجموعات كأس الخليج    تصعيد جديد في اليمن يهدد استقرار الجنوب    وصول الطائرة السعودية ال75 لإغاثة غزة    ولي العهد يستقبل رئيس إريتريا    استئصال البروستاتا بتقنية الهوليب لمريض سبعيني في الخبر دون شق جراحي    وزير الحج والعمرة يزور فرع مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في جامعة بكين    اليوسف يتفقد محاكم ديوان المظالم بالمدينة ويلتقي بالمستفيدين    جمعية روضة إكرام تعقد دورتها النسائية حول الأحكام الشرعية لإجراءات الجنائز    الشعر الأصيل في حضرة الأمير    ‏أمير منطقة جازان يرعى احتفال اليوم السعودي والعالمي للتطوع 2025    أم كلثوم «تحبس» منى زكي عاماً    «الإذاعة» تستعرض إرثها بمهرجان البحر الأحمر    طيور مائية    ولي العهد يفتتح مرافق قاعدة الملك سلمان الجوية    حي حراء الثقافي يعزّز التجربة السياحية    إطلاق «هداية ثون» لتطوير الخدمات الرقمية بالحرمين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهوية والمبالغة في توكيد الذات
نشر في عكاظ يوم 14 - 08 - 2011

لقد ذكرنا في المقال السابق أن مفهوم «الهوية» ومفهوم «الآخر» مرتبطان ارتباطا وثيقا وأنهما معا يشكلان جوهرين أساسيين للتجربة الأيديولوجية، وهنا بعض الإيضاح والتفصيل. إن الفكر الأيديولوجي بصفة عامة ينهض على هذه الثنائية الحادة (الأنا والآخر) ولكي تضمن القوة الأيديولوجية السيطرة التامة على المجتمع فإنها تسعى إلى جعل الناس على «عقل رجل واحد»، أي ترمي إلى تحويل مجموع الأفراد إلى نسخ مكررة من نموذج واحد، هذا النموذج ذو العقل الواحد تمت صياغته في مصنع الأيديولوجيا. وبصورة أو بأخرى نجدنا نطلق على هذا النموذج مفهوم «الهوية»، فالهوية إذن هي هذا الشخص الكلي ذو العقل الواحد والذي يصاغ أغلب أفراد المجتمع على هيئته ونمطه، وعملية الصياغة هاته هي ما يسمى ب«الأدلجة»، ومن أجل ذلك شددنا على أن مفهوم الهوية من أهم الركائز الأيديولوجية. على أن مفهوم الهوية يتطلب مفهوما ضروريا هو بمثابة الشرط الأساسي له، ألا وهو مفهوم «الآخر»، وهذا المفهوم في ظاهره يدل على من هو «غير» أو «مختلف» أو «خارج» الأنا أو الذات الثقافية، إلا أن الفحص الدقيق له يثبت أن «الآخر» ليس سوى صورة لا شعورية من الأنا، وبعبارة أوضح فإن الهوية تتحدد من خلال فرز مجموعة معينة من الصفات والخصائص والقيم الجيدة والسيئة، وما هو سيئ في تصور «الأنا» يتم إلحاقه بمفهوم الآخر، ومن خلال هذه العملية تتم تنقية وتطهير مفهوم الهوية الذي هو جوهر الأنا الحضارية. وبعبارة إدوارد سعيد أقول إن «الآخر» هو اختراع «الأنا».
في ظل الثقافات المنغلقة أو الصلبة تعمل هذه الثنائية الحدية «الأنا والآخر» بشكل مقلق ومأزوم. إن وجود الهوية بوصفها النموذج المنسوخ والمكرر والوحيد يدل على رفض التنوع والاختلاف، وهذا بدوره يشير إلى توتر العلاقة مع الآخر الذي لن يتم الاعتراف بآخريته وبأحقيته في الوجود في ظل هذا التوتر. إن الثقافة الصلبة المنغلقة على نفسها وعلى نموذجها المثالي تكون مهمومة بالآخر بصورة هوسية، فالآخر بالنسبة لها هو مصدر لتماسك وقوة الهوية. وفي أشد حالات التوتر والانغلاق وبالتالي الفقر الذاتي تصبح الهوية من النمط السلبي الذي يتحدد كليا من خلال معارضته للآخر، فهو يعرف نفسه فقط من خلال هذا المصدر، ولم يصل إلى المرحلة التي يرى فيها إلى ذاته وإلى طاقاته الداخلية والتي لو وصل إليها لعرف أن «الآخر» كان مجرد وهم وأن مفهوم الهوية كان عائقا كبيرا أمام التقدم والتطور.
إن الآخر في ظل المنطق الأيديولوجي المتطرف ليس سوى عدو لدود، إنه من يمثل قيم الشر والانحلال والفساد، ولذا فإن أفراد هذا المنطق يستغربون كثيرا عندما يتواصلون مع أفراد ينتمون لثقافة الآخر، فهم يجدونهم بشرا عاديين لا يقلون عنهم في شيء، بل يزيد استغرابهم إذا لمسوا من الآخر تعاملا حسنا وأخلاقا راقية. وهذا التواصل مع الآخر والذي أشرنا في المقال السابق إلى أن تقنية الاتصالات والتواصل المباشر والفوري سوف تخطو به إلى الأمام هو ما سيجعل من الثنائية الحدية في محك الاختبار، ولا يبعد أن يفككها ويلغيها تماما، وهذا قد حدث فعلا في ثقافات أخرى كانت تتعامل مع غيرها بمثل هذا المنطق الصلب ولكنها تحررت منه فأدركت مدى الوهم الذي كانت تعيشه، ولم يعد لديها هوس ولا قلق بمن هو «أنا» ومن هو «غيري!». أجل، ستجعل العولمة من مفهوم الهوية ومفهوم الآخر مجرد علامة أو أثر باق على حقبة زالت وانتهت.
فلنضع النقاط على الحروف ونتكلم بشكل أوضح من خلال عرض أمثلة واقعية. يمكنني القول تقريبا إن الثقافة العربية وبعض الثقافات الإسلامية لا تزال خاضعة لهذا المنطق الصلب، بل هي الوحيدة تقريبا في العالم اليوم التي تفكر من خلال منطق الأنا والآخر، فهناك العربي والمسلم الذي يقابله كل البشر من الناحية الأخرى، أما الآخر التقليدي (ولا بأس لو قلنا العدو التقليدي) فهو «الغرب». لماذا يكون العربي والمسلم مهموما ومشغولا بصورة ملحة بتوكيد ذاته وعزلها عن غيرها؟! وهل في هذا خير وفائدة له؟ وهل «الآخر» مهموم ومشغول به كما هو يفعل؟ وبتعبير آخر: هل «الغربي» مشغول بالعرب والمسلمين كما نحن نفعل؟! للأسف لا، فهو لا يعلم عنا شيئا ولا يهمه من أنت ما دمت تحترمه وتراعي الحد الأدنى من قيم التواصل. إن الياباني مثلا أو الصيني أو أي شخص آخر غير مهموم بمفهوم الهوية وتوكيدها لأن الإبداع في النهاية هو من يؤكد الهوية ويحفظ لها قيمتها، وهذا هو مفهوم الهوية بمعناه الإيجابي الذي لا يستحضر أبدا مفهوم الآخر، فالآخر بالنسبة له مجرد شريك في ميدان العمل والإبداع. إنه أي ذلك الياباني أو الصيني لا يلاشي ذاته ويلغيها لحساب مفهوم «الأمة» أو الثقافة، فهو يعرف تماما أن الأمة ستضرب في أعماقها إذا هو فعل ذلك، وهذا يدل على أن توكيد الذات الفردية هو الركيزة الحقيقية لمجد الأمة والوطن وليس التفاخر بالماضي أو تأكيد الاستقلال عن الآخرين لمجرد التميز فحسب. أعيد سؤالي: لماذا نصر نحن العرب والمسلمين على أن نكون مختلفين عن غيرنا وعلى أن نؤكد ذاتنا الحضارية بصورة متكررة؟! هل أجرؤ على الجواب وأقول: لأننا لا نملك شيئا آخر سوى هذا العمل؟! إني أخشى ذلك، فالفرد المبدع والأمة المبدعة تكون مشغولة بتطوير ذاتها وليس بمراقبة الآخر وملاحظة سلوكه لتتحاشى بالتالي الالتقاء معه على صعيد واحد. إن ما يحدث اليوم للجاليات الإسلامية على سبيل المثال من انغلاق على الذات واستحضار للعادات القديمة والأزياء التقليدية ونحوها هو تعبير عن الأزمة الحادة التي يعيشها المسلم، إنها محاولة غريبة لتوكيد الذات الحضارية على نحو يجعلنا ندرك أنها هي الطريقة الوحيدة التي يملكها ما دام خاضعا للفكر الأيديولوجي الذي يرفض التنوع والاختلاف والاعتراف بالآخرين. صحيح أن الملابسات والأزمات السياسية التي حدثت في بلاد المسلمين كان لها بعض الدور في ذلك، ولكن التضليل الأيديولوجي أيضاً جعلهم يسلكون الطريق الخاطئ بدل أن ينهضوا فيبدعوا كما فعل الآخرون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.