طفا اسم جزر (الكيمون) أخيرا على سطح الأحداث الاقتصادية مرتبطا باسم بعض رجال الأعمال السعوديين الذين يواجهون صعوبات مالية ومماحكات قضائية من شركاء الأمس. وأنا هنا لست بصدد إصدار الأحكام على أحد ولا على بعض مؤسسات الأعمال السعودية العائلية التي يتوقع أن تتسبب في انكماش الاقتصاد السعودي بنسبة لا تقل عن 1 في المائة حسب تقديرات مجموعة جدوى للاستثمار بسبب انكشافها في مواجهة أول أزمة اقتصادية حقيقية منذ أواخر ثلاثينات القرن الماضي. ولكنني هنا بصدد الحديث عن جزر (الكيمون) ومثيلاتها من الجزر والمناطق النائية التي تستخدم كمخابئ للثروات Money Havens بعيدا عن مواطنها الأصلية وسلطاتها المحلية. ويتصور كثير من رجال الأعمال والسياسيين المهددين في بلادهم، وغيرهم من المتعاملين في الاقتصاد السفلي أو (الأسود) في مختلف بقاع العالم وفي دول العالم الثالث وجه الخصوص أن تخبئة الأموال في بنوك في جزر في الكاريبي مثل (الكيمون أو الباهاما)، أو في بنوك في جزر في (القنال الإنجليزي)، أو في إمارة أوروبية أو آسيوية صغيرة مثل (أندورا، وليخنستاين، ولكسمبورج، وموناكو، وسنغافورة وهونج كونج) أو في بنوك في دول تضمن سرية الودائع مثل (سويسرا والنمسا) أو غيرها، يمكن أن تحفظها في مأمن من تسلط السلطات المحلية في بلادهم الأصلية أو من دائنيهم في حالة انهيار أعمالهم أو حتى في حالة رغبتهم بالهجرة وترك السفينة ومن عليها في عرض البحر ولتفعل الأنواء بها ما تشاء. ويتصور كثيرون أن مخابئ الأموال هذه تقع في دول مستقلة تعتمد نظام البنوك الحرة أو Off-shore banking ولا سلطة لأحد عليها ولا يمكن التعرف على موجوداتها ولا زبائنها ولا مصادر أموالهم. وفي هذا التصور خطأ كبير جدا فبعض هذه المخابئ يخضع مباشرة لبعض الدول العظمى وفي مقدمتها بريطانيا التي تسيطر سيطرة مباشرة على النظام البنكي في مستعمرتها في الكاريبي (جزر الكيمون) وعلى (جزر القنال الإنجليزي) وقبلها في (هونج كونج) و (سنغافورة)، كما أن بعضها ترك ليشكل إمارة مستقلة أو دويلة بعد الحرب العالمية الثانية مثل الإمارات الأوروبية الصغيرة التي ترفع أعلام دول مستقلة في الأممالمتحدة، وذلك لحاجة النظام العالمي الذي أفرزته معاهدات (بريتون وودز) لمثل هذه المخابئ لاستدراج كافة الأموال التي لا يمكن استيعابها في النظام البنكي الرسمي لأسباب متعددة منها الدستوري والسياسي أو حتى الأخلاقي. ولكن من خلال هذه المخابئ التي تشرف عليها أجهزة استخبارات و (مافيات) عالمية يمكن اجتذاب مثل هذه الأموال للاستفادة منها بإعادة ضخها في الاقتصاد العالمي عبر قنوات تمويل النشاطات المشبوهة كالمتاجرة غير المشروعة بالسلاح والرقيق الأبيض وتمويل حركات التمرد والمعارضة التي يساندها الغرب، (وربما بإقراضها للدول والحكومات التي لجأت منها أصلا بشكل غير رسمي، لتدفع باقتراضها فوائد تمويل طائلة للاستفادة منها بشكل رسمي). ولقد تزايدت مخابئ الأموال هذه وتشعبت بما يشبه الانتشار السرطاني على خريطة العالم أجمع حتى بدأ الجميع بمن فيهم من كانوا وراء انتشارها وحمايتها باستشعار خطورتها المدمرة على اقتصادياتها بعد أن بدأ سياسيوها وكبار رجال الأعمال فيها بالاستفادة من خدماتها في التهرب من الضرائب وتهريب الأموال مما تسبب في أزمات سياسية على مختلف المستويات بين الولاياتالمتحدة وسويسرا وبعض دول الاتحاد الأوروبي. ورغم علم الجميع بالأموال المهربة وأصحابها ومصادر الحصول عليها إلا أن معظم الساسة الغربيين يتعاملون مع هذا الملف بنفاق واضح فيه ميل كبير للسكوت عنها لأن كثيرين منهم متورطون في التعامل معها والكل يخشى من تفجر فضائح تخرج عن نطاق السيطرة. ورغم أن واحدة من أهم نتائج مؤتمر (قمة العشرين) التي عقدت في لندن مطلع أبريل من العام الحالي كانت تتحدث عن العمل على تتبع وإغلاق مخابئ الأموال هذه، إلا أن أية إجراءات عملية جادة لم تتخذ في هذا الاتجاه لعدة أسباب منها أن المنفعة من وجودها تحت السيطرة الغربية أعظم من ضررها على الاقتصاديات الغربية خاصة أن معظم الأموال المتجمعة فيها تأتي من دول العالم الثالث ويمكن الاستفادة منها كمصدر سهل للتمويل، كما يمكن الاستفادة منها في التعرف على طبيعة الأنظمة السائدة في بلاد المصدر وعلى الشخصيات الاقتصادية القائدة فيها وعلى طرقهم ووسائلهم في الحصول على الأموال وأنماط إنفاقهم لها. ويعتبر هذا السبب الأخير من أهم الأسباب التي تدفع القوى الغربية للحفاظ على مخابئ الأموال العالمية لأن في وجودها مصدرا ثريا للمعلومات الاستخباراتية التي يمكن أن تستخدم عند الحاجة ضد الأنظمة والدول والأشخاص الذين يتعاملون معها، والأمثلة على ذلك كثيرة، فكم رأينا من دول وزعماء ورجال أعمال كبار في العالم الثالث وهم يفقدون أموالهم بالتجميد أو من خلال إدانتهم بقضايا إرهاب أو غسل أموال. وما حالة تجميد أموال رجل الأعمال السعودي في بنوك جزر الكيمون سوى سلسلة في حلقة طويلة من حالات الاستيلاء على الأموال بحق أو من غير حق. ورغم أن السبب الظاهر في التجميد في هذه الحالة بالذات يرجع إلى شكوى من الشريك السعودي الآخر، إلا أن الحقيقة تبعد كثيرا عن ذلك، فمنذ متى تتجاوب البنوك في مخابئ الأموال هذه مع قضايا بين طرفين من بلد واحد خاصة إذا كان عربيا؟! ولكن هذه المرة هناك تخوف من أن تكون هناك مديونيات مستحقّة لحساب هيئات وأشخاص من الاتحاد الأوروبي، فكان هذا التجميد احترازيا تحسبا لمطالبات أوروبية مستقبلية. وهكذا يمكن للجميع أن يرى بسهولة أن مخابئ الأموال هي في الحقيقة مصائد لها، وأنها تحت السيطرة الأمنية والقضائية للدول المهيمنة على الاقتصاد العالمي، وأنه يمكن استخدامها عند الحاجة من قبل تلك الدول في أغراض اقتصادية وسياسية وأمنية متعددة. ولذلك أرى أنه قد آن الأوان فعلا لتنظيف معاملاتنا الاقتصادية والمالية في هذا الجزء من العالم والعمل على إنشاء نظام بنكي عربي قوي وأمين ومحمي بتشريعات وأنظمة يضمن للمواطنين الحرية الكاملة في حفظ وتحريك واستثمار أموالهم بيسر وسهولة على مستوى العالم، بدلا من إجبارهم على اللجوء لمثل هذه المخابئ التي أصبح عملها أشبه ما يكون بالثقوب السوداء التي تبتلع النجوم في مجرة الاقتصاد العالمي، فهي تبتلع الثروات وتدمر الأشخاص القادمين من العالم العربي على وجه الخصوص. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة