منذ أيام قليلة أعلن الرئيس الأمريكي ترمب خطته للسلام في الشرق الأوسط والمعروفة إعلامياً باسم «صفقة القرن»، ومن المؤكد أن خيوط ودهاليز هذه الصفقة لم تكن بعيدة عن الأصابع الإسرائيلية، فقد بدا رئيس الوزراء نتنياهو أمام عدسات المصورين في حالة فرحة غامرة؛ بل ومتحمساً لإتمامها ذلك أن هذه الصفقة تنتصر تماماً للجانب الإسرائيلي، فالدولة الفلسطينية المزعومة طبقاً لهذا المقترح المجحف هي مجرد دولة رمزية، منزوعة السلاح ودون جيش، ومخطط لها أن تبقى للأبد رهينة في أيدي الإسرائيليين؛ حيث لا حق للاجئين في العودة لديارهم، في الوقت الذي ستبقي فيه القدس (الرمز الإسلامي المقدس عند عموم المسلمين) على أرض إسرائيلية وليست عربية. صفقة القرن لا ترقى لأن تكون أكثر من مجرد سيناريو قام بإخراجه طرف واحد فقط لإملاء شروطه المهينة على الطرف الآخر، غير أن الأمر المخزي في ذلك أن ذلك الطرف الآخر لا يضم العنصر الفلسطيني فحسب، بل يضم كافة الدول العربية بتاريخهم المجيد وإرثهم العريق، إن ما قام به الرئيس الأمريكي ترمب هو أشبه بإنشاء حكم ذاتي داخل دولة، دون أي سيادة حقيقية وبحيث تكون تلك الدولة محاصرة من جميع الجهات، لقد شرعنت تلك الصفقة جميع صور الاحتلال التي برع في تطبيقها الجانب الإسرائيلي على مدار عقود طويلة، فالمستوطنات التي تم نزعها عنوة من الأراضي الفلسطينية تم الاعتراف بها دولياً، واللاجئون الذين يعيشون على أمل العودة يوماً لديارهم -جيلاً وراء جيل- تم سحب كافة حقوقهم في عودتهم لأراضيهم، والمسجد الأقصى الذي يمثل لجموع المسلمين أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين سيبقى للأبد داخل حدود إسرائيل. لا شك لدينا في أن إسرائيل تعلم علم اليقين أن أي اتفاقية سلام غير عادلة لا تضمن للفلسطينيين حقوقهم هي مجرد حبر على ورق، فلن تعترف بها الأجيال القادمة، ولو تقبلها جيل ما لظروف معينة، فليس من الضروي -أو حتى من المقبول- أن تتقبلها الأجيال التالية، التي ما أن تشب عن الطوق حتى تواجَه بظلم فادح وحق مهضوم، ولن يكون أمامها وقتها سوى المقاومة بكل ما أوتيت من قوة، وبالتالي فمن الحكمة أن يتم توقيع اتفاق عادل لجميع الأطراف يحول دون الدخول في دائرة مفرغة من العنف والعنف المضاد، وهو ما سيكون النقيض التام لما تأمله الأطراف الأمريكية والإسرائيلية من بسط للسلام والأمن في الشرق الأوسط. قد يغفل ترمب عن أن فلسطين هي أرض إسلامية ولها من القداسة في قلوب المسلمين ما يجعلهم يدافعون عن كل شبر فيها ضد أي معتدٍ أو غازٍ كلما سمحت لهم الظروف بذلك، ومثل تلك الاتفاقية لا يمكن لجموع المسلمين أن يعترفوا بها مستقبلاً، وتعنت إسرائيل وإصرارها على التعامل من منطلق القوة والهيمنة فحسب لا يعني سوى سهولة التخلي عن كل ما تم الاتفاق عليه في السابق ومستقبلاً، وهو ما يبرر رفض الفلسطينيين الحالي لتلك الصفقة والذي رافقه رفض عربي قوي بالإجماع. نتفهم رفض الفلسطينيين لصفقة القرن لأن ذلك يعني قبولهم بعدم المطالبة مستقبلاً بأي شبر من الأراضي الفلسطينية، وهو ما يعني أن الفلسطينيين قد استسلموا تماماً لكافة تداعيات الظلم المحيقة بهم، واعتراف الدول العربية بتلك الصفقة سيفقدهم حتى التعاطف مع الدول المتعاطفة في الأصل مع قضية فلسطين، لأنهم فرطوا في مبادئهم وتنازلوا عن حقوقهم، ولن ينظر لها العالم بعدها أي نظرة احترام أو تقدير، وقد يعتقد البعض أن ما تم طرحه هو أفضل ما يمكن الحصول عليه، وهذا الأمر من الممكن أن يكون صحيحاً في حالة واحدة فقط، وهي أن يكون ذلك المطروح هو ما يمكن قبوله في الوقت الراهن فحسب، على أن تستمر المفاوضات فيما بعد لنيل المزيد من الحقوق، ولكن أن تكون تلك الصفقة هلامية وغير مضمونة العواقب وغير قابلة للتعديل فهذا الأمر مرفوض شكلاً وموضوعاً، وموافقتنا عليها سيمثل شهادة وفاة لتاريخ مجيد وحضارة ملأت العالم نوراً وعلماً وسلاماً لقرون طويلة.