الحياة - سعودي زيارة وزير الخارجية الأميركية للعراق أظهرت عمق المأزق الذي تعيشه الإدارة الأميركية في العراق هذه الأيام، فبعد مقابلته للمالكي والبارزاني وعدد من المسؤولين العراقيين اتضح أن تصريحات وزير الخارجية الأميركي لم يكن لها صدى في بغداد، فطالب بحكومة وحدة وطنية تضم مختلف القوى العراقية من دون استثناء، لكن تصريحات المالكي حول هذا الموضوع بعد مغادرة كيري، عكست تمسكه بالسلطة وعدم موافقته على الاقتراح والتنازل، على رغم الضغوط التي يتعرض لها، سواء داخلية أم خارجية وهو ما يدل على أن الأزمة في العراق لا تزال في بدايتها، وسيدفع ثمنها الشعب العراقي والعربي والمنطقة بأكملها. يتفق المحللون بأن دور الولاياتالمتحدة الأميركية في العراق كان سلبياً منذ انتهاء احتلال الكويت، فهي لم تسعَ بالتعاون مع الدول العربية الفاعلة لإيجاد حل سياسي في العراق يحفظ له وحدته وكيانه السياسي بعد إخراجه من الكويت، بل على العكس تفردت بالقرار منذ اللحظة الأولى وحتى احتلاله، فأنهكت الاقتصاد وفككت التركيبة الاجتماعية، مستغلةً الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة العراقية في ذلك الوقت، وقرارات مجلس الأمن الدولي، وغياب عربي شبه تام عن المشهد العراقي، وبدأت خلق واقع جديد ومكون سياسي جديد، يحمل هذا المكون ضغائن على الشعب العراقي ويحمّله المسؤولية كاملة ويحاسبه وينتقم منه، وعلى مسمع ومرأى من قوى الاحتلال الأميركي في ذلك الوقت، فالقوى السياسية الجديدة التي خلقتها وكونتها قوى الاحتلال قبل غزو العراق، الذي كان مستهدفاً بالتفكيك والاحتلال منذ استقلاله، فقامت هذه القوى الجديدة بتفكيك الدولة، بدل أن تحافظ عليها وعلى مكوناتها، وهنا بيت القصيد، لكن دائماً لا بد من أن نسأل: من الذي ساعد هذه القوى وهو يعرف أنها ستنتقم وتقوم بوضع العراق تحت السيطرة الإيرانية التي ما زالت تحلم بالإمبراطورية الفارسية؟ ولمصلحة من تفكيك وتهميش العراق، وإخراجه من منظومته العربية الذي كان عضواً فاعلاً فيها؟ الجميع يتفق على أن أكبر الرابحين والمستفيدين هما إسرائيل وإيران، اللتان تعتبرانه سداً منيعاً لها للنفاذ في الجسد العربي، فالمالكي يخدم المصالح الإيرانية، بينما هناك قوى أخرى تخدم المصالح الإسرائيلية، والقوى الوطنية الصادقة هي التي وقعت ضحية لمصالح الدولتين الطامعتين وأعوانهما. في ظل غياب وتراجع تركي واضح، حيث يبدو أن مشروعها في المنطقة آخذ في الأفول، فهي ما زالت تريد جمع الحسنيين، أن تكون قائدة للعالم الإسلامي وفي الوقت نفسه تريد أن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي، بدأ الحلم الكردي الكبير بالتحقق، لذلك أخذ الأكراد خلال هذه الفترة يتحركون بقوة، فأقوال البارزاني لكيري كانت واضحة، من حيث إن الأكراد في ظل الوضع الجديد واستيلائهم على مدينة كركوك الحلم، أصبحوا عملياً مستقلين، فالنفط يصدر، وأربيل العاصمة تستقبل كبار المسؤولين والزوار والمسافرين مباشرة، وتتصرف وكأنها دولة مستقلة، بل هي الآن مستقلة واقعياً، من دون اعتراف دولي، لها جيش وشرطة ومصادر دخل من النفط، وعَلَم وحكومة تدير الإقليم، لذلك أصبحت الدولة الكردية واقعاً، وهو ما يسعى إليه الأكراد في العراق والدول الأخرى المجاورة، وهو من أسباب استغلالهم لظروف الأزمة العراقية، فهم المستفيد الأول من مكونات الشعب العراقي الداخلية. استغل المالكي والقوى الجديدة العديد من القوى العراقية الأخرى، والاستفادة منها لفترة ثم الانقلاب عليها، فتجربة قوى الصحوات بقيادة عمر أبو ريش، واستغلالها في ضرب القوى المعارضة الأخرى، ثم عدم الوفاء بالوعود التي أعطيت لها، والانقلاب عليها وعدم إدراجها في القوات المسلحة والقوى الأمنية، وهو ما جعلها قوى مليشيات حتى الآن، وكذلك مع القوى السياسية الأخرى كنائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي الذي تزعم الحزب الإسلامي العراقي من عام 2004 وحتى عام 2009، وانسحب من الحزب وتحالف مع إياد علاوي، وتم تعيينه نائب رئيس جمهورية، ثم انقلب عليه المالكي، وأصدر حكماً بالإعدام غيابياً بحقه، وهو الآن في تركيا، وهذه منهجية تفكيك القوى السياسية المعارضة لهم، خصوصاً القوى السنية، علماً أن هذه السياسة لم تنجح مع الأكراد. أمام هذا الواقع لا بد من ظهور قوة تملأ الفراغ الذي تركه غياب القوى السياسية السنية الفاعلة، التي تمت محاربتها من المحتل والقوى السياسية العراقية الجديدة المدعومة من المحتل وإيران، وسلمت لها السلطة والقوة، بحجة اجتثاث البعث وغيرها من الحجج كالإرهاب وغيرها من التبريرات الأخرى التي كان الهدف الرئيس منها هو التهميش والقضاء على المكون السني وإضعافه إلى أقصى درجة، بل إقصاؤه تماماً إن أمكن، لذلك أمام هذه الضغط والفراغ ظهرت «داعش» وغيرها من القوى المتطرفة التي استفادت من سياسات المالكي ومن سبقوه في الحكم، القائمة على الإقصاء والانتقام من مكون معين في العراق، وهي سياسة ممنهجة وهادفة ومدعومة من قوى خارجية دولية وإقليمية. إن ظهور «داعش» يذكرني بظهور «طالبان» في نهاية التسعينات، فبعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان، تقاتلت القوى الأفغانية المختلفة التي كانت تقاتل الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، لتتقاتل فيما بينها، وتدمر البلد، حتى ظهر جيش طلاب الشريعة (طالبان)، واجتاحوا أفغانستان، قاضين على جميع القوى المسلحة، ثم ما لبثت أن واجهت القوى الغربية التي سمحت لها بالقضاء على الجميع، ثم بعد ذلك تم إسقاطها من الحكم واحتلال أفغانستان، لذلك يبدو أن القوى الخارجية، سواء أكانت إقليمية أم دولية تريد ل«داعش» أن تقاتل الجميع، حتى تنهك المنطقة، ومن ثم يُقضَى عليها من هذه القوى. إن إنشاء جيش رديف للجيش العراقي، ودعوة السيستاني للتطوع، واستعراضات الصدر المليشياوية، تحاكي قوات الدفاع الوطني في سورية، ويمكن أن تكون فكرة لإنشاء قوة تحاكي نموذج الحرس الثوري الإيراني، الذي يعد جيشاً آخر في إيران، وهو ما يؤكد لنا قوة التغلغل الإيراني في الشأنين العراقي والسوري، ويقود إلى تفكيك المنطقة وخلق جيوش بديلة عن الجيوش الرسمية، يساعد إيران والقوى المتحالفة معها على السيطرة والهيمنة، وتهميش دور القوى المناوئة لها على الإطاحة أو التغيير أو تقليص النفوذ الإيراني. المنطقة أصبحت متصدرة للأحداث المأسوية، والأيام المقبلة حبلى بالأحداث، والعراق مقدمة. * أكاديمي سعودي.