النزاعات والرسوم الجمركية وأسعار النفط تؤثر على توقعات اقتصاد دول الخليج    ميزانية السعودية تسجل 263.6 مليار ريال إيرادات    12024 امرأة يعملن بالمدن الصناعية السعودية    ممنوع اصطحاب الأطفال    تركي بن هذلول: خدمة الحجاج شرف خصه الله بالمملكة حكومةً وشعبًا    ارتفاع حاد في أسعار الذهب مع تجدد المخاوف من الحرب التجارية    "الدعم السريع" يلجأ للمسيّرات بعد طرده من الخرطوم ووسط السودان    السيطرة والبقاء في غزة: أحدث خطط الاحتلال لفرض الهيمنة وترحيل الفلسطينيين    عبدالعزيز بن طلال يعرب عن الاعتزاز بالالتزام العربي بقضايا الطفولة والمجتمع المدني    كييف: 200 اشتباك مع القوات الروسية    الهند وباكستان تصعيد جديد بعد هجوم كشمير    نائب وزير الخارجية يلتقي سفير نيبال لدى المملكة    القيادة تهنئ ملك هولندا بذكرى يوم التحرير    حرس الحدود يختتم معرض "وطن بلا مخالف" في جازان    وزير الداخلية يدشن مشروعات متطورة في المدينة المنورة    وزارة التعليم وموهبه تعلنان انطلاق أولمبياد الفيزياء الآسيوي    مسيرة «البدر».. أمسية ثقافية بجامعة الملك سعود    المملكة تختتم مشاركتها في معرض مسقط الدولي للكتاب    انطلاق فعاليات منتدى «العمارة والتصميم» في الظهران    أمير الجوف يدشن مدينة الحجاج والمعتمرين    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي نائب رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا    العشاء: عادة محببة أم عبء اجتماعي؟    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس جمعية أصدقاء لاعبي كرة القدم    علاج أول حالة ارتفاع دهون نادرة في جازان    احتفالية ضخمة تنتظر الأهلي في موسم جدة    1.2 مليون زائر لمعرض جسور في جاكرتا    أمير منطقة تبوك يرعى حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة فهد بن سلطان    ختام أول بطولة ملاكمة مفتوحة للأساتذة    جمعية أصدقاء البيئة تبرز جهودها في ملتقى "وطن أخضر.. غَدُهُ مستدام" بجامعة الإمام عبدالرحمن    محافظ صبيا يتفقد الاستعدادات لمهرجان المانجو والفواكه الاستوائية في نسخته ال21    وزير الرياضة يستقبل فريق الأهلي بعد تحقيقه اللقب الآسيوي    إنهاء معاناة طفل من جلطات دماغية متكررة بسبب مرض نادر    أمير منطقة الجوف يلتقي أهالي محافظة دومة الجندل    النصر ينضم لسباق كارلو أنشيلوتي    دوري يلو.. مواجهات حاسمة في صراع "البطاقة الثانية"    زوجان بنجلاديشيان .. رحلة من أمريكا إلى مكة المكرمة    مستشفى النعيرية العام يحتفي باليوم العالمي للصحة والسلامة المهنية    إطلاق مبادرة المترجم الصغير بجمعية الصم وضعاف السمع    من جيزان إلى الهند.. كيف صاغ البحر هوية أبناء جيزان وفرسان؟    رياح نشطة على معظم مناطق المملكة    عادة يومية ترفع معدل الوفاة بسرطان القولون    سعد البريك    القيادة الملهمة.. سرّ التميّز وصناعة الأثر    أسرة عصر وأرحامهم يستقبلون المعزين في مصطفى    الأمير سعود بن جلوي يتفقد مركز ذهبان ويلتقي الأهالي    صناديق الاقتراع ورسائل الأمن.. مساران لترسيخ الشرعية والسيادة.. لبنان يطلق الانتخابات البلدية ويحكم قبضته على «صواريخ الجنوب»    العراق.. 10 أيام إضافية لتسجيل الكيانات الانتخابية    عندما يصبح الهجوم على السعودية سلعة مربحة    انطلاق المعرض العائم اليوم في جدة.. 60 مليار ريال سوق «الفرنشايز» في السعودية    الرفيحي يحتفي بزواج عبدالعزيز    بحضور شخصيات من سلطنة عمان.. عبدالحميد خوجه يحتفي بضيوف ديوانيته    شيجياكي هينوهارا.. كنز اليابان الحي ورائد الطب الإنساني    "الغذاء" تسجل دراسة لعلاج حموضة البروبيونيك الوراثي    الشاب خالد بن عايض بن عبدالله ال غرامه يحتفل بزواجه    «حقوق الإنسان» تثمّن منجزات رؤية 2030    "المنافذ الجمركية" تسجل 3212 حالة ضبط    أمير جازان يستقبل مدير عام فرع وزارة العدل بالمنطقة    تخريج 331 طالبًا وطالبة من جامعة الأمير مقرن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محامي الشيطان

عندما رُفع لنابليون مشروع قانون المحاماة لتوقيعه علَّق: (إنَّه مشروع سخيف لا يترك لنا أي سلطان على المحامين، مع أنّهم قوم ثوريون مدبرو جرائم وخيانات، وما دام سيفي بيميني فلن أضع إمضائي على مثل هذا القانون.. ولوددت لو أستطيع قطع لسان كل محام يستعمله في الطعن على الحكومة).
وكان أول نظام عصري للمحاماة قد ظهر عام 1790م إبان الثورة الفرنسية قبل بضع سنوات من صعود نجم نابليون كأقوى إمبراطور في زمانه، والذي تمكن من عرقلة صدور نظام شامل للمحاماة، ولكن الزمن الحقوقي كان يمضي إلى الأمام، فتم إقصاء هذا الدكتاتور وإعلاء نظام المحاماة عام 1830م..
مقولة نابليون البائدة تذكرتها وأنا أقرأ في الإنترنت بعض الأقلام المعبرة عن عدم اتفاقها على فحوى ما نُشر حول السماح لمحامين سعوديين للدفاع عن المتهمين بالإرهاب.. ففي رأيهم أنه لا يمكن لمدبري الجرائم ومنتهكي الحقوق أن ينالوا حق الحصول على محامين..
هذا الاعتراض يتأسس على خشية أن تؤدي براعة المحامي ولسانه الحاذق إلى تبرئة المجرم.. وحتى في المجتمعات المعاصرة التي عرفت نظام المحاماة منذ وقت طويل تكونت صورة تظهر المحامي كجشع صاحب لسان سليط يلعب بالحقائق بمهارة، بل إن أول نظام للمحاماة في التاريخ الذي ظهر مع الإمبرطورية الرومانية منذ أكثر من ألفي سنة ميَّز في مهنة المحاماة بين المستشار القانوني (الفقيه) وبين الخطيب البليغ، فالأول يدرس القضية ويعطي أفضل مشورة للخطيب المفوه الذي سيرافع أمام القاضي بمهارة أساليبه البلاغية والبيانية.
لكن مهما كانت بلاغة الدفاع في اللعب بالحقائق، ومهما كان جرم المتهم ومدى ما يؤثر في نفسياتنا من تقزز تجاه جرمه، فمن حقه أن يستمع القضاء إلى دفاعه، فالأصل في سماع الدفاع عن المتهم هو أن القاضي يحكم بجميع الدلائل المتوفرة وليس بالانفعالات أو بالتوقعات الجازمة، فقد يظهر للقاضي حقائق مخالفة للتهمة المرفوعة، ومما يدل على ذلك قول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار) رواه البخاري ومسلم.
لا شك أن بعض المظاهر الشنيعة للجرائم المرتكبة تؤثر في سرعة حكمنا على المتهم الظاهر لنا، فإذا لم نمنحه فرصة الدفاع والاستماع إليها مع كافة إجراءات المحاكمة العادلة فقد نحكم عليه ظلماً، فمما يروى عن الفاروق عمر بن الخطاب أن جاءه رجل قد فُقئت عينه، فقال له عمر: تحضر خصمك، فقال له: يا أمير المؤمنين أما بك من الغضب إلا ما أرى، فقال له عمر: فلعلك فقأت عيني خصمك معاً، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معاً، فقال عمر: إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء. كما رُوي عن عمر بن عبدالعزيز، قال لقمان إذا جاءك الرجل وقد سقطت عيناه في يده فلا تحكم له حتى يأتي خصمه.
وإذا كان فقهاء الإسلام في القرون الوسطى لم يضعوا نظاماً محدداً للمحاماة فإن الشريعة الإسلامية قد ضمنت للمتهم حق الدفاع عن نفسه أمام القضاء أو حقه في تكليف وكيل ينوب عنه.. والشرائع الأخرى غير الإسلامية تفاوتت في أساليب الدفاع عن المتهم.. فمن الطريف أنه في تلك الحقبة في إنجلترا كان النزال والتقاتل بالرماح على صهوة الجياد هما الوسيلة الوحيدة للحكم والقضاء لصالح الغالب دائماً والذي يعد بذلك بريئاً، أما المغلوب فهو المذنب. وبدأت ممارسات الإنابة للنساء وأعضاء الكنيسة والمستضعفين في الأرض حيث ينوب عنهم فارس ينازل خصمه المدعي أو المدعى عليه بحسب الأحوال، وبذلك كانت إنابة الفرسان نظاماً يكاد يشبه فكرة المحاماة مع الفارق، وذلك حسب خبير القانون الشيخ مسلم اليوسف.
ولكن في القرن الرابع عشر حُرمت هذه الطريقة الهمجية، مما اضطر طرفا الخصومة القضائية إلى أن يستعينا بصديق له خبرة قضائية ودراية بأعمال القضاء وإجراءاته، لذلك كان هذا الصديق من يردد العبارات الشكلية الضرورية لإقامة الدعوى أو اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقديم الدفاع. وظهرت طبقة جديدة مختارة من قبل التاج الملكي الإنكليزي أصبح لها شأن كبير حتى أن القضاة كانوا يختارون منها وصار المتميز منهم يشكل مدرسة يجتمع في منزله الطلبة لتلقي العلم القانوني، واتخذ هذا التجمع بعد ذلك شكل الجمعيات ونوادي القانون. بينما كانت القوانين الفرنسية في القرن 14 أكثر تقدماً وضبطاً حيث وضع برلمان فرنسا قواعد تحدد أسماء من يبقون مقيدين بجدول المحامين، وبعض تلك القواعد والقيود لم تفقد قيمتها إلى اليوم (مسلم اليوسف).
الشاهد أنه خلال تطور القضاء عبر التاريخ لم يكن سهلاً على البشر قبول هيئة دفاع عن أناس يراهم المجتمع مجرمين وخونة، ولكن الوقائع أثبتت براءة متهمين كان اتهامهم قطعياً، بل أثبتت براءة متهمين اعترفوا بجرائم لم يرتكبوها، حتى لو كان هذا الاعتراف طوعياً ولم يؤخذ بالقوة والإكراه.
لذا أصبح حق الحصول على محام لأي إنسان أياً كان، حقاً لازماً كفلته جميع المواثيق الدولية، ولا توجد دولة واحدة في العالم تعارضه. بل يجب أن توفر الدولة محامياً لكل متهم إذا لم يتمكن المتهم من ذلك، بل بعض الدول تجبر المتهم على توكيل محام حتى لو رفض المتهم وأقرّ بكل الاتهامات.. إذن حق توكيل محام لكل إنسان مهما كان جرمه غير قابل للنقاش من الناحية القانونية، وإن كان قابلاً للنقاش من الناحية الأخلاقية والفكرية.
المجتمعات المنظمة ليست في غابة من هجم عليَّ أهجم عليه، بل مجتمعات لها تشريعاتها التي تقنن الحقوق والعلاقات بين الأفراد والجماعات، ومن يخرج عليها لا بد من الاستماع إلى أسباب خروجه، وذلك يتطلب توكيل محام يعرف منظومة التشريعات التي غالباً ما يجهلها المتهم. وهناك فائدة للمجتمع من الاستماع للظروف والدوافع والأسباب التي حدت بالمذنب - وليس فقط المتهم - لاقتراف جرمه، لكي يتم تجنبها؛ وذلك يشبه ما يُطلق عليه مجازاً محامي الشيطان، فعندما تتطرق جماعة لنقد فكر أو سلوك سيئ لشخص ما غير موجود ينبري أحد أفراد الجماعة لتبني قضيته ليس عن قناعة بل محاولة للإنصاف، لأن الشخص غير موجود كي يدافع عن نفسه..
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.