أصبحت قضية الفساد أمرا واقعا لا يمر معها يوم إلا ونقرأ عن حالة هنا أو هناك، وذلك قياسا بالأبعاد الأخلاقية في الممارسات الإدارية أمر يستنزف القيم الاجتماعية ويهدد الاقتصاد الوطني، لأن الفساد من الآفات الأخلاقية والاقتصادية الخطيرة التي تأخذ من الوطن والمواطن وتعطي ثلّة من المسؤولين والقائمين على أمانة العمل في دولاب الدولة، ولذلك فإن إنشاء كيان يعنى بالشفافية ومكافحة الفساد تأكيد على وجود هذه الآفة التي تستدعي محاربتها بطريقة منهجية ومؤسسية. ومن بين كل المؤسسات التي تصيبها آفة الفساد هناك مؤسستان يفترض أن تكونا في المقدمة لمحاربتها وتنظيف العمل منها، وتقديم نموذج سلوكي وأخلاقي يترفع بقدراتنا وتفانينا في العمل إلى مستويات معيارية تقلل من الأضرار التي يتسبب فيها الفساد، ولكن للأسف وللمفارقة الغريبة فإن تلك المؤسستين يعشش فيهما الفساد، وتأتي أخباره بحسب ما ذكرت سابقا بما لا يبشر بخير في مسألة القدوة والنموذج وتعزيز الأبعاد الأخلاقية في المجتمع وموظفي الدولة الذين يتجرأون على المال العام. هيئة مكافحة الفساد مطالبة بأكثر مما هو رقابي وراصد لحالات الفساد، وإنما ينبغي أن يتسع نظامها للملاحقة والتحقيق ومن ثم وضع الملفات جاهزة أمام القضاء، ويبدو أنه أمامنا طريق طويل حتى نرمي الفساد وراء ظهرنا التنموي مؤسستا التربية والتعليم والعدل، الأولى معنية بتهذيب القيم الأخلاقية لدى الأجيال وتجريدهم من الانهيارات السلوكية، والثانية محل الحساب والعقاب وضبط الأحوال في العمل، وقد قرأنا أخيرا أن وزير التربية والتعليم وجه بتشكيل لجنة للتحقيق حول المعلومات والمستندات التي قدمها مسؤول بإدارة تعليم الرياض، تكشف عن تورط موظفين في تجاوزات واختلاسات وصلت لنحو 150 مليون ريال، تمثلت في ترسية مشروعات صيانة وتشغيل وإنشاء على شركات تعود لأسرتين معروفتين. الموظفون المتورطون في هذه التجاوزات زوروا ودلسوا الحقائق وحاولوا منع وصول المعلومات والمستندات إلى وزير التربية، وكشفت الوثائق والمستندات المشار إليها بجانب التجاوزات في ترسية مشروعات الوزارة عن تجاوزات ومخالفات أخرى، منها منح مسؤول رفيع 10 سيارات لمكتبه، منها 6 تحت استخدامه الشخصي. وفي الأخبار أيضا أن الجهات الأمنية ألقت القبض على كاتب العدل المتهم بالتورط في تزوير «صك المليار» المسجل برقم صك طلاق في محكمة كتابة العدل الأولى في جنوب محافظة جدة، مساحتها 60 مليون متر مربع، وتتجاوز قيمتها السوقية 3 مليارات ريال، لمصلحة رجل أعمال. تلك أمانات تم تضييعها في مواقع هي مناط المسؤولية الوطنية والاجتماعية والدينية، وضعف النفس فيها أمر ينبغي إعادة النظر فيه، فالتربية والتعليم أمر يتضاعف فيه مثل هذا الجرم لأن ذلك تترتب عليه تداعيات سالبة تلحق بأجيال يفترض أن تنشأ على المكارم والفضائل والبعد عن الشبهات، وما لم يكن المربي هو النموذج والمثال فيستحيل حينها أن نحصل على أجيال ترعى القيم وتتخذها مبادئ وأخلاقا في حياتها وتطبقها لما فيه خيرها وخير مجتمعها ووطنها. وبالنسبة للعدل فلا يقل الأمر خطورة لأنها الجهة المعنية بمكافحة مثل هذه الظواهر وحفظ حقوق المجتمع والوطن، وحين تضعف نفس المسؤول فيها فإن التالي أسوأ وأكثر جرأة على الحرام وأكل السحت وتضييع حقوق المجتمع والوطن، وفي المجمل فإن تلك أمانات ينبغي ألا يحملها إلا القوي الأمين الذي تعاف نفسه أكل الحرام والانتفاع الرخيص من أجل نفسه على حساب مجتمع ينتظر منه أن يقيم العدل ويبدأ بنفسه، ولذلك فإن هيئة مكافحة الفساد مطالبة بأكثر مما هو رقابي وراصد لحالات الفساد، وإنما ينبغي أن يتسع نظامها للملاحقة والتحقيق ومن ثم وضع الملفات جاهزة أمام القضاء، ويبدو أنه أمامنا طريق طويل حتى نرمي الفساد وراء ظهرنا التنموي. تويتر :@sukinameshekhis