لم يكن يدري الرئيس الراحل أنور السادات، وهو يأمر بتشييد نصب الجندي المجهول، في طريق النصر، بحي مدينة نصر، رمزاً لشهداء حرب أكتوبر، أنه بعد أقل من 10 سنوات، وفي مفارقة غريبة، سيلقى حتفه قتلاً على يد المتشددين والمتطرفين، في منصة العرض العسكري، على بعد أقل من 60 متراً، بل يُوارى الثرى أيضاً هناك، على خلاف وصيته بأن يدفن في قريته، ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية.. وقيل وقتها إن الدفن في هذا المكان، كان بأمر مباشر من الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي كان يومها نائباً لرئيس الجمهورية، وأصيب في حادث الاغتيال. مستودع المفارقات.! ورغم وجود أكثر من نصب تذكاري آخر للجندي المجهول في الإسكندرية، والإسماعيلية، وعدد من المدن المصرية الأخرى.. إلا أن النصب الذي ينتصب شامخاً في طريق النصر، بالقاهرة، كرمز للتضحية والفداء، بقى الشاهد الأكبر على أفظع مأساة شهدتها مصر، في يوم الاحتفال بذكرى انتصارها في حرب أكتوبر 1973، حينما تم اغتيال أول رئيس مصري، في حقبة ما بعد ثورة 1952، وربما كان الرئيس الأول في التاريخ المصري، الذي يلقى مصرعه في 6 أكتوبر 1981، على أيدي بعض جنوده، في ذكرى انتصاره.. قيل وقتها، إنه انتقام لتوقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل.. وقيل أيضاً إن منفذي الحادث، ينتمون لجماعات جهادية، نجحوا في التسلل بقيادة ملازم أول خالد الإسلامبولي، لطابور العرض وقتها، ونجحوا في قتل السادات، ومجموعة أخرى، في مشهد ظل عالقاً بذاكرة المصريين طويلاً. النصب التذكاري، أو قبر الجندي المجهول، الذي تم تشييده بأوامر مباشرة من الرئيس السادات، وصممه الفنان المصري، سامي رافع على شكل هرم، استمراراً لفكرة الخلود عند المصريين القدماء (الفراعنة). وقد بني النصب الذي افتتح رسمياً في أكتوبر 1975، من الخرسانة على هيئة هرم مجوف من الداخل، بارتفاع 33.64 متر في حين يبلغ عرض الحوائط عند القاعدة 14.30 م. يبلغ سُمك حوائطه الأربعة 1.9 متر، مسجل عليها 71 اسما رمزيا. مع مكعب من حجر البازلت الصلب لقبر الجندي المجهول. منصة خالية على يمين المتجه، في طريق النصر الشهير، إلى كوبري أكتوبر، والمزدحم بالمرور، يقف النصب التذكاري، وحيداً، مقابل منصة باتت خالية، من أية عروض عسكرية، بعد حادث الاغتيال عام 1981، لا يفصلهما سوى الشارع الذي يحتضن أيضاً مقر جامعة الأزهر، وكان من جهته، قرب ميدان رابعة العدوية، مسرحاً لأحداث الاعتصام والفض. المنصة الشهيرة، التي لم يحدث عندها أي استعراض عسكري، طيلة 34 عاماً، وطيلة فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك، ربما تشاؤماً، لا تزال تحتفظ بالذكرى الرئاسية، عبر الصقر الكبير (شعار رئاسة الجمهورية) وهو يلمع بخفوت على الجدار الخلفي، وبينما يبدو برج حراستها الشهير، مهجوراً إلا من جندي "مناوبة" تطل رأسه من فتحة صغيرة في الأعلى، تبدو منها فوهة سلاحه الآلي. مزار سياحي أمام ساحة كبيرة، تبدو مزاراً سياحياً، يرتاده زوار من كل الجنسيات، يأتون في حافلات خاصة، يلتقطون الصور التذكارية، ويعبرون الممشى الطويل، ليلقوا نظرة على قبر الرئيس الراحل، جنود الحراسة الذين ينتصبون أسفل أكشاك صغيرة، في المدخل، يتبعهم جنود آخرون من المراسم العسكرية، يقفون "انتباه" ولا ترمش لهم عين، في ثلاث ورديات حراسة متكررة، حتى ليخيل للناظر إليهم، أنه أمام تماثيل حجرية، لا تهتز، سواء في حر الصيف، أو في برد الشتاء، كتقليد عسكري صارم. وأمام حواجز معدنية صغيرة، خطوطها حمراء، وأعمدتها مطلية بالنحاس، تأخذك عبر سجادة حمراء طويلة، في الممشي، تجد حراسات متعددة، بعضها بالزي المدني، بعضهم يجيد عدة لغات، يتحدث بها مع السياح. مصريون أيضاً من كل الأعمار، ربما يتوافدون وهم قلة ليأخذوا مزيداً من الصور، حتى وإن جهل بعضهم أن رئيساً مصرياً يرقد هناك بسلام.. هكذا قال لي مرافقي بالصدفة، الذي ما إن استأذنت جندي الحراسة، في أن ألقي نظرة على قبر السادات، لم يمانع، وإن كان قد حذرني بعدم تصويره.. فدسست الكاميرا الصغيرة في جيب سترتي الأيسر. عمرو.. (21 عاماً) جندي اكتفى بالاسم الأول له ولا أدري إن كان صحيحاً أم لا ابتسم في وجهي، دون أن يحرك ساكناً، قال لي: إنه يؤدي خدمته العسكرية هنا، وأضاف أنه من قرية بإحدى محافظات الغربية، ولم يتبق له سوى أشهر معدودة، على نهاية الخدمة، داعياً بأن "تمر على خير". فاتحة وصور تذكارية أمام قبر السادات، قرأت الفاتحة لروحه، آخرون فعلوا ذلك، بينما اكتفى البعض وكانوا من الأجانب بالوقوف أمام الشاهد الذي يحمل على واجهته آية قرآنية «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون» وكتب أسفلها : "الرئيس المؤمن، محمد أنور السادات، بطل الحرب والسلام.. رجل عاش من أجل السلام، واستشهد من أجل المبادئ". وعلى الجانبين، يقف جنديان بالزيّ الفرعوني المزركش، يحمل كل منهما رمحاً معدنياً من الطراز القديم، تبدو وجوههما أكثر بشاشة وبعيدة عن التجهم، ربما كانت لزوم الترويج لمزيد من الزيارات السياحية. طفل صغير، مع أبويه، اللذين تبدو ملامحهما جنوب شرق آسيوية، يصر أن يقفز فوق السياج الأحمر، ما دعا أحد الجنود بلباس مدني، لإنزاله برفق، قبل أن يتدخل أبواه بإقناعه، ليصرخ في احتجاجٍ، مبدداً سكون المكان. ولافتاً الأنظار. إنه النصب التذكاري.. هرم كبيرٌ أجوف.. يقاوم بياض حجارته كل عوامل التعرية.. صنع في الألفية الثانية، ليكون رمزاً لشهداء، ربما لم تكن رفاتهم ترقد بسلام تحته، ولكنه أصبح الشاهد مع المنصة المقابلة، على حدث مأساوي، ربما لن يتكرر في تاريخ مصر.