حين تُصادر الخوارزمية حرية الفكرة.. يفقد العالم أكبر أسلحته، التي قال عنها الاقتصادي الفرنسي، جاك أتالي: «من يملك البيانات يملك العالم.. ومن يحرّفها يملك الإنسان»، ليقف العالم المقهور لاسيما العالم العربي اليوم أمام صفقة قد لا تغيّر ملكية منصة فحسب، بل قد تغيّر –بصمت– طريقة تفكير جيلٍ بأكمله، وهنا يجب ألا يُطرح السؤال: من يشتري تيك توك؟ بل: من يعيد برمجة وعي العالم؟، فلم تعد السيطرة على العالم اليوم رهنًا بالجيوش أو الأساطيل، بل ب«من يملك تدفّق المعلومة» و«من يتحكم في الوعي»، إنها عين الحقيقة لا مخيلة شاعر مجازيةً؛ أصبحت معادلة نفوذ سياسي واقتصادي تسعى القوى الكبرى لاحتكارها، لتحكم بقانون الغابة كل صفقة تكنولوجية عملاقة في ساحة صراع سيادي بامتياز. وبينما يتجادل السياسيون حول «الحظر أو البيع»، تبدو الحقيقة أشد وضوحًا من أن تُحجب: «إننا أمام أكبر عملية تركيز نفوذ إعلامي– تقني في يد رجل واحد منذ نشأة وادي السيليكون»، ولعل صفقة فصل النسخة الأمريكية من «تيك توك» وسيطرة الملياردير، لاري إليسون، تمثل أخطر انعطافة في تاريخ الملكية الرقمية الأمريكية منذ عقدين على الأقل. فالرجل الذي شيّد «أوراكل» وجعلها جهازًا عصبيًا لاقتصاد البيانات الأمريكي، يتجه اليوم لضم منصة تملك وحدها تأثيرًا على أكثر من 150 مليون أمريكي، والتي وصفها نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، صفقة «تيك توك» بأنها «أهم عملية شراء» جارية الآن، مشيرًا إلى أنه الدور على منصة إكس، مضيفًا: «علينا أن نتحدث إلى إيلون.. إنه صديق، لا عدو». لقد تحول تيك توك.. من أزمة تشريعية إلى «مكسب إستراتيجي» للمستثمر الصحيح، أعلنها نتنياهو بأن المنصات الرقمية هي «السلاح الأهم» في المعركة على الرأي العام الأمريكي، تكشف كيف يُنظر لهذه المنصات كأدوات نفوذ سياسي وليس مجرد تطبيقات ترفيه، ومع ضغط الإدارة الأمريكية لفصل النسخة المحلية عن الشركة الصينية، بدا المشهد مهيّئًا تمامًا لوصول رجل يمتلك شبكة علاقات مع قادة سياسيين نافذين، وله تاريخ طويل في بناء بنى تحتية معلوماتية حساسة، مع مصالح متقاطعة مع دوائر إستراتيجية في واشنطن ونفوذ متزايد في هوليوود والإعلام الأمريكي، لتتحول بالمعطيات السابقة إلى «صفقة إنقاذ أمن قومي» -كما رُوّج لها- إلى بوابة ذهبية لتوسّع غير مسبوق في سيطرة رجل واحد على طبقات البيانات والإعلام معًا. أما البعد الأخطر فليست في الصفقة.. بل ما بعدها، حيثُ كانت الصفقة الأمريكية–الصينية مع بقاء 20% من الملكية لبايت دانس و80% لشركاء أمريكيين، لا تُقرأ بمعزل عن مَن يدير البنية السحابية ومن يملك حق إعادة تدريب الخوارزمية، لأن ببساطة التحكم في الخوارزمية أهم من التحكم في الملكية.. وهو ما يعني أن إشراف «أوراكل» على تخزين البيانات وإعادة تدريب الخوارزمية يعني عمليًا أن جزءًا كبيرًا من وزن القرار التحريري والاستشعاري في «تيك توك» سيصبح ضمن بيئة شركات قريبة من دوائر النفوذ السياسي الأمريكي والمصالح الأمنية والاستخباراتية، بل ومع التحالفات الإعلامية الكبرى المسيطرة على المشهد الموجه، وهذا في ميزان التأثير أهم ألف مرة من مجرد «شراء أسهم». لما لا.. وقد تخطت بالفعل ثروة لاري إليسون (354 مليار دولار) لأول مرة ثروة إيلون ماسك (434 مليار دولار) في 10 سبتمبر/أيلول الماضي، بعدما حقق الأول أعلى عائد في يوم واحد بمقدار 88 مليار دولار؛ ليظفر بلقب أغنى رجل في العالم مدة ساعات معدودة، قبل أن يعود إيلون ماسك للصدارة مرة أخرى قبيل إغلاق التداول. إذن ما الذي يجعل الصفقة مقلقة اقتصاديًا وسياسيًا؟ تركيز قوة غير مسبوقة بخوارزمياتها في يد لاعب واحد لنرى أن إليسون يوسّع استحواذاته في الإعلام «باراماونت – سكاي دانس – مشروعات للسيطرة على شبكات كبرى»، بالتزامن مع امتلاكه بنى البيانات الضخمة، هذه المعادلة كانت مستحيلة قبل 10 سنوات.. وأصبحت الآن واقعًا. توحيد البنية التحتية مع السردية الإعلامية، فحين يصبح من يملك البيانات هو نفسه من يملك المحتوى، تتحول المنصات إلى «نظام بيئي مغلق» يُعاد فيه تشكيل الوعي العام وفق مصالح سياسية واقتصادية محددة، خطر «الانزلاق الخوارزمي»، إذ لا حاجة لحذف المحتوى؛ يكفي تخفيض ظهوره. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: إعادة تشكيل المزاج السياسي الأمريكي تجاه أي قضية، لاسيما الشرق أوسطية وغزة أو مشروع إسرائيل الكبرى من النيل للفرات، بمنطق «تحت السقف» لا بمنطق الرقابة الصريحة. تحالف رأس المال مع السلطة السياسية كعلاقة إليسون وترامب الوطيدة، إضافة إلى شبكة ارتباطات متشعبة مع مراكز نفوذ مؤثرة، تجعل المنصة ساحةً لمعادلات سياسية أكثر منها اقتصادية. من يدفع الثمن؟، هنا الواقعية المستخدم أولاً، ثم المجتمع، ثم الحقيقة، فالرقمنة ليست محايدة، ومن يتحكم في حركة المحتوى يملك القدرة على إعادة هندسة نماذج الوعي السياسي، والتحكم في موجات التعاطف والرفض، ورسم صورة النزاعات الدولية وفرض «ثقافة مُفلترة» بمواصفات مسبقة.. وكمثال لم تعد هذه افتراضات، تصريحات بلينكن ورومني حول تأثير محتوى غزة على الشارع الأمريكي مثال صارخ على حجم الفزع السياسي من قوة المنصّات. ليس السؤال: هل أصبح تيك توك في قبضة إسرائيل؟، لكن السؤال الحقيقي: هل أصبح في قبضة منظومة نفوذ جديدة تندمج فيها البيانات مع الإعلام والسياسة؟.. نعم فالربط بين المستثمرين الأمريكيين وحلفائهم في الشرق الأوسط ليس مؤامرة، بل معطى معلن في علاقات التمويل والتبرعات والدعم السياسي، والأخطر ليس في «هوية الجهة» بقدر ما هو في تركيز قوة فائقة التأثير في يد تحالف اقتصادي–سياسي واحد. وقفة: إن أخطر ما قد يحدث لتيك توك ليس تغيير الملكية، بل تغيير الخوارزمية. وأخطر ما قد يحدث للمجتمعات ليس حظر المحتوى، بل إعادة هندسته.. فقد وصف الاقتصادي والسياسي اليوناني، يانيس فاروفاكيس، هذا التحوّل ب«الإقطاع الرقمي»، قائلًا إن عصر الرأسمالية التقليدية ينسحب لصالح «الإقطاع التكنولوجي»، حيث يحتكر قلّة التدفقَ والمعلومة والواجه، والقصة هنا تتجاوز سؤال «من يشتري التطبيق؟».. إننا بإزاء قوة جديدة قد توحِّد البنية التحتية مع السردية، فما الذي سيتغير فعليًّا؟ وهل ستستطيع الصحافة الأمريكية، والكونغرس والهيئات التنظيمية التي طالما افتخرت بها الولاياتالمتحدة، فرض معايير تمنع انزلاق تجربة تيك توك لتكون فقاعة سلطوية أمريكية معزولة تسود فيها سردية تحبها إسرائيل، وترجو منها أن تنقذها في المستقبل القريب؟!. ففي زمن الحروب الرقمية، لم تعد الجيوش وحدها من يحسم المعارك؛ بل الخوارزميات التي ترى أبعد من البشر وتقرر أسرع منهم، حتى غدت هي العقل الخفي الذي يُعيد تشكيل موازين القوة في العالم.