الحياة ليست رواية، ليست مشهداً بيروتياً أو قصة هوليوودية، إنها مجرد حدث رتيب يستأنف نفسه مع طلوع كل شمس جديدة، حدث بشري هش إلى حد التفاهة، تراجيدي من الداخل، كوميدي من الخارج، لذا لا تبتئس إذ أصابك السأم، بل أشعل الملل في قلبك الصغير على مهل وابتسم، واحرس جُميرات الضجر بين جنبيك بتؤدة وروية، وهدهد الأغرار فيك ليناموا، فالوطن لا يؤمّنه المستعجلون، والأحلام لا يحققها المتهورون، والبيوت الرصينة لا يبنيها المسارعون إلى المتٌع والملذات، لذا تجلد واصطبر، ولا تصدقن أن النصر والفلاح يمكن أن تصنعه كثرة التخبطات والمغامرات والدراما، فالإثارة هي مهنة من لا مهنة له، بينما الملل هو حارس الناجحين والمبدعين والأحرار، أولئك الذين اختاروا أن يتصدوا بصدورهم العارية لرصاص الرتابة والتكرار. الملل لو تعلم، ليس شبحاً علينا أن نهرب منه، بل هو تمرين فلسفي على البقاء على قيد المعنى والإنسانية والحرية، إنه تدريب للعقلاء والمتأمّلين الذين لم يعودوا يطلبون من الحياة أن تُدهشهم، بل أن تكشف لهم وجه الحقيقة بلا أقنعةٍ أو بهارج، لأنهم أدركوا أن الحكمة عدوة الإثارة، والحياة لا تحتاج إلى مزيدٍ من الإثارة، بل إلى مزيدٍ من التروي والقلق الجميل حول وجودنا، وبينما تحترق الأرواح المسرعة الملولة، تتعلم الأرواح الصابرة على الملل كيف تضيء، فتتكشف لها الحُجُب وترتقي في مراتب العلم والمعارف والنجاحات. مع الأسف، توهمنا أخلاق السوق الحديثة، أن الملل هو نقيض السعادة والحياة، وقاتل الشباب والإبداع، بل وتراهن هذه الأخلاقيات الحديثة على أن الملل رديف للتخلف وخطر على الحضارة والتقدمية، وتسعى إلى تقديم السرعة والإشباع الحسي الفائق كعلامة أساسية للإنسان المتحضر، لكن من حيث لا ندري، ينفجر الملل كفضيلة أخلاقية مهمة اليوم، وهي فضيلة مقاومة إغراء الامتلاء بالفراغ!، أي فضيلة مواجهة عالم مفرط في التشتت المُفرغ من المعنى والأهداف، مواجهة باردة، بلا أدوات أو وسائل، سوى تلك الذات الشجاعة أمام نفسها وأمام الزمن، فالملل في النهاية ما هو إلا مقابلة الذات لذاتها بدون أي وسائط أو حواجز. الإنسان الذي يخاف من الملل، هو الإنسان الذي فقد قدرته على التفكير والاتصال مع ذاته، فيسعى إلى البقاء في حالة هروب دائمة منها، من خلال محاولة سد تلك الفجوات بينه وبين نفسه عن طريق الموسيقى، الأكل، الرياضة، استهلاك السوشال ميديا، الجداول المزدحمة، الاجتماعات، الحفلات والخروجات، وبذلك يصبح كائناً استهلاكيا مبرمجا لخدمة غايات وأهداف ليست له، ويعيش كممثل ثانوي في قصته، وهنا يكمن سحر الملل، الذي يعيد انتشالنا من دوامة الاستهلاك والطاعة بغير وعي ويعطينا القدرة على التمرد الناعم على نظام التفاهة والاستهلاكية، والأهم من هذا كله أنه يضعنا مجدداً وجها لوجه أمام خيباتنا ومشاكلنا الحقيقية، وقتها فقط تبدأ المفاجآت في الظهور، والحلول والمخارج الإبداعية لمشاكلنا، وتبدأ الإثارة الحقيقة تتجسد أمامنا كوقائع لا كمجرد مشاعر نسعى إليها. وهكذا بإمكانك أن ترى أن الملل ليس شيئاً مضراً، أو حدثاً يُفرض عليك، بل يمكن أن يكون موقفا فلسفيا أخلاقيا حرا، يحملك من أن يتم التهامك بوحشية في سوق استهلاكية قذرة لا تهتم لصحتك النفسية ولا لنجاحك واتزانك العقلي، وتعلن رفضك لما يستنزفك وعالم لا يتوقف عن التسارع بشكل مجنون، أن تقول لا لإنتاج الفراغ والتفاهة والعدمية. أشعل الملل إذن، لا لتقهر العالم أو أن تعيش دور الحكيم المستنير، بل لتجاوره عبثية العالم السريع الفارغ الذي نعيشه. اجلس إلى جواره كما يجلس الحكيم إلى صديقه القديم، وتذكّر أنه أحياناً يمكن للاشيء أن يحمل معنى كل شيء، فكلّ ما نسمّيه سعادةً أو إلهاماً أو حبّاً، إنّما يبدأ من هناك، من لحظة بطيئة خالية من كل شيءٍ إلا نفسك، ففي الملل تُعاد صياغة العالم بالطريقة التي تشبهك، وتحفظ إيقاعك، وتحترم ذوقك وإنسانيتك، والأهم من ذلك أنك ستكون هناك مفكراً وشاهداً على الحياة، لا مجرد تابع.