في نوفمبر 2025، سيتوجه العراقيون إلى صناديق الاقتراع للمشاركة في الانتخابات البرلمانية. وبصرف النظر عن هوية الطرف المهيمن في بغداد، فقد آن الأوان لتقييم أسلوب إدارة الدولة، لا سيما فيما يتعلق بالإدارة المالية والتنمية الاقتصادية. فمنذ سقوط صدام حسين عام 2003، سعى العراق بشكل متواصل إلى تحقيق هدفين مترابطين في مجال التنمية. أولهما التحرر من نموذج الاقتصاد الريعي عبر تنشيط القطاعات غير النفطية وتقليل الاعتماد المفرط على صادرات النفط الخام. والثاني هو تطوير البنية التحتية المادية اللازمة لتحقيق هذا الهدف. وفي نهاية المطاف، يتطلب الأمر إعادة توجيه الإنفاق العام من النفقات الجارية، مثل تضخم رواتب القطاع العام، نحو الاستثمار في الأصول المادية. ورغم أن هذه الخطوة قد تكون مربكة لشريحة الموظفين في القطاع العام، فإن هذه الموارد المالية أساسية لتطوير البنية التحتية، بما يتيح نمواً يقوده القطاع الخاص ويحقق التنويع اللازم لاقتصاد العراق. أظهرت بيانات المالية العامة الصادرة عن الحكومة الاتحادية العراقية أن الحكومة الحالية، تواجه عجزاً مالياً جديداً مدفوعاً بالاعتماد على النفط. في العام الماضي، ارتفع سعر النفط المطلوب لتحقيق التوازن في الموازنة إلى 84 دولاراً للبرميل، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي. ومع تراوح أسعار النفط حول 67 دولاراً للبرميل، لم تعد عائدات النفط العراقي، التي تمثل أكثر من 93 % من إجمالي دخل الحكومة اعتباراً من 2025، كافية لتغطية النفقات العامة المخطط لها. من غير الواقعي توقع أن تعالج أي حكومة جميع الاختلالات الاقتصادية الهيكلية والمشاكل المالية في العراق خلال ولاية واحدة مدتها أربع سنوات، غير أن المسؤولية والفرصة لبدء الإصلاح تبقى قائمة. والحلول المطلوبة معروفة جيداً، لكنها مشروطة بتنازلات صعبة يُعقدها الاقتصاد السياسي الذي نشأ في العراق بعد عام 2003، والذي رسخ الإنفاق قصير الأجل المدفوع بالرعاية على حساب التنمية طويلة الأجل. على مر التاريخ، كان أي انخفاض كبير في أسعار النفط يُحدث صدمة فورية في الاقتصاد العراقي ويؤدي إلى دعوات متجددة للإصلاح، لا سيما في مجال التنويع الاقتصادي. وتستحق الحكومة بعض التقدير لتخفيضها معدل الفقر الوطني من 20.1 % إلى 17.5 % بين عامي 2018 و2024 عبر الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية. والأهم، أن الاقتصاد السياسي للعراق يفسر أيضاً الأسباب الجذرية لسوء إدارته المالية، حيث أدت ديناميات الاقتصاد الريعي إلى ترسيخ توقعات واسعة بشأن سخاء الدولة. حيث يعمل أكثر من 40 % من القوى العاملة في العراق في القطاع العام أو في الشركات المملوكة للدولة، والتي استحوذت على 59 % من إجمالي الإنفاق العام للحكومة في النصف الأول من 2025. وهذا لا يترك مجالاً كبيراً للاستثمار طويل الأجل، وأي محاولة لخفض الإعانات أو إعادة هيكلة الرواتب تنطوي على خطر إثارة رد فعل شعبي عنيف. وبالمثل، لا يزال نظام المحاصصة السياسي العراقي، القائم على تقسيم المؤسسات وفقاً لاعتبارات عرقية وطائفية، يلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على شبكات المحسوبية. وغالباً ما تعامل الوزارات كإقطاعيات حزبية، تخدم في المقام الأول مصالح أحزابها بدلاً من الصالح العام. وبالتالي، فإن التشرذم المؤسسي يحول دون صدور قرارات متماسكة ويكرس حالة من الارتباك السياسي والإداري. ولمعالجة تداعيات انخفاض عائدات النفط، اعتمدت الحكومة على تدابير لم تُسهم في معالجة الأسباب الجذرية للأزمات المالية المتكررة. من أبرزها خفض الإنفاق على الاستثمار العام، إذ تُعطى الحكومة الأولوية للنفقات الجارية مثل الرواتب والمعاشات، والتي شكلت أكثر من 60 % من إجمالي موازنة 2024. فيما تمويل المشاريع التنموية مثل البنية التحتية والخدمات التي تعد ضرورية لبناء اقتصاد متنوع هي أول ما يتم تخفيضه أو تأجيله. وهناك إجراء مؤقت آخر يُستخدم غالباً خلال فترات العجز المالي الناجم عن انخفاض أسعار النفط، وهو السحب من احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي العراقي، التي بلغت 111 مليار دولار عام 2023 ووصلت في الوقت الراهن إلى 104 مليارات دولار. ورغم أن هذا الإجراء قد يوفر متنفساً مالياً قصير الأجل، فإنه ينطوي على مخاطر كبيرة على المدى الطويل. النهج الثالث في إدارة العجز المالي يتمثل في تعديل سعر الصرف الثابت للبنك المركزي العراقي. وعلى الرغم من هذه التحديات الهائلة، فإن الإصلاح المالي ليس مستحيلاً، بل يمكن تحقيقه إذا كان مدعوماً بضغط من المواطنين العراقيين وتحالف من الفاعلين السياسيين المستعدين لاتخاذ قرارات غير شعبية من أجل الاستقرار والنمو الاقتصادي على المدى الطويل. * معهد واشنطن