حين وقف صهيب الرومي عند أطراف مكة مهاجرًا منها، أوقفه رجال قريش. قالوا له: «أتيتنا صعلوكًا فكثر مالك عندنا وبلغت ما بلغت، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك». نظر إليهم بهدوء ثم قال: «أرأيتم إن أعطيتكم مالي، أتخلّون سبيلي؟». قالوا: نعم. فقال: «أشهدكم أني قد جعلت لكم مالي». وحين وصل المدينة، استقبله النبي صلى الله عليه وسلم بقولٍ لم تُمحِه الذاكرة: «ربح صهيب.. ربح صهيب». هذه القصة، رغم بساطتها، تلخّص أصدق أشكال الانتماء: ذلك الشعور الذي يجعل الإنسان يقدّم ما بيده، لا لأنه مجبر، وإنما لأنه مؤمن بما يفعل. في زمننا، قد تتغير السياقات، لكن روح الانتماء تبقى هي الروح. وهي، في بيئة العمل، تُزرع من خلال ثقافة مؤسسية قوية، وتنمو عندما يشعر الموظف بأنه جزء محوري من المؤسسة، لا مجرد رقم على الهامش. بيئة العمل الصحية لا تتشكل من المكاتب والسياسات التي تفرض على الموظف. بل هي حالة شعورية، ومزاج جماعي، ومجموعة سلوكيات تتراكم يومًا بعد يوم، حتى تُشكّل ما يُشبه «الشخصية» للمكان. وحين تكون هذه الشخصية متصالحة مع من فيها، يسود الانسجام، ويصبح الانتماء ممارسة يومية ذا معنى. أما في غياب هذا الشعور، يتحوّل العمل إلى عبء ثقيل، ويصبح الانتماء غلافًا هشًّا سرعان ما يتشقق. كثيرًا ما نصادف موظفين يتحدثون عن مؤسساتهم كما لو كانوا يتحدثون عن منازلهم. يشاركون قصص النجاح، ينشرون إنجازات العمل، ويصممون محتوى يعكس هويتها بكل حب، دون أن يُطلب منهم ذلك. ينبع هذا الحماس من شعور داخلي عميق بالفخر والانتماء الحقيقي. ومن الجميل أن ترى بعض الموظفين يعبّرون عن احترامهم الكبير لقادتهم، ليس لأنهم أصحاب سلطة أو مناصب، وإنما لما لمسوه فيهم من اهتمام صادق وتقدير حقيقي. ففي بعض البيئات المؤسسية التي تضع الموظف في صدارة الاهتمام، لا يكون القائد مجرد مدير، وإنما يصبح قريبًا من فريقه، مستمعًا لهم، داعمًا لطموحاتهم، مشاركًا في نجاحاتهم وتحدياتهم. في المقابل، نصادف شريحة من الموظفين يعبرون عن استيائهم من بيئات عمل تفتقر إلى الدعم والتواصل الفعّال. كلماتهم تعكس شعورًا بالغربة وعدم الانسجام، وكأنهم يعملون في مكان لا يرى وجودهم. هذا التباين الحاد في تجارب الموظفين يكشف حجم الفروقات في ثقافة المؤسسات، ويظهر بوضوح كيف تؤثر البيئة الداخلية في بناء الانتماء أو هدمه. لذا، برزت مبادرات وطنية تهدف إلى تحفيز هذا النوع من الثقافة داخل المؤسسات. من أبرزها «جائزة العمل» التي أطلقتها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية لتكريم المنشآت المتميزة، من خلال مسارات متنوعة، أبرزها مسار «بيئة العمل المميزة». هذا المسار يركّز على الجهات التي توفّر بيئة محفزة تعزز من رضا الموظفين وانتمائهم. ومن شروط الجائزة إجراء استبيان لقياس الرضا العام، يُعبّئه الموظفون بأنفسهم، لتُبنى الجائزة على رأي العاملين لا على مؤشرات شكلية فقط. بهذا تكتسب الجائزة قيمتها، كونها تعكس ما يشعر به الموظف داخل بيئته، لا ما يُقال عنها من الخارج. الانتماء لا يُصنع عبر قرارات إدارية، وإنما يُبنى عبر ممارسات حقيقية. فحين يشعر الموظف أن رأيه مسموع، وأن مساهمته مرئية ومقدّرة، ينمو شعوره بالانتماء بشكل متدرج. ولاء كهذا لا يتأثر بالأزمات العابرة، ولا يتلاشى عند أول فرصة عمل مغرية. ويرتبط بالفكرة، وبالبيئة، وبالناس الذين يشاركونه مهام العمل اليومية. وهذا ما يصنع الأجواء العامة داخل المؤسسة؛ فإن كانت صحية ومحفزة، دفعت الموظفين إلى الإبداع والمبادرة. أما إذا غاب الدعم والاهتمام، خفت الحماسة، وتراجع الطموح، وفقد العمل معناه.