تزايدت في الفترات الأخيرة طريقة تفسير القرآن الكريم بما بات يُعرف بالإعجاز العلمي، حتى أصبحت هي الإطار الفكري الذي يُنظر من خلاله المتأمل للقرآن من أبناء المسلمين، بل وخصوم القرآن الكريم. وهذه الطريقة في تأمل القرآن هي أن الباحث إذا وقع على معلومة «علمية» مكتشفة حديثًا، يطرأ على باله ما هو الشاهد عليها من القرآن الكريم، بحيث يُثبت إعجازية القرآن بما أنه ذكر هذه المعلومة قبل أربعة عشر قرنًا. وهذه الطريقة تنتج من أن المتأمل أو المفسر هذا لديه أولًا قناعة مطلقة بصحة المعلومة التي وقع عليها، وثانيًا لديه قناعة أن القرآن الكريم يجب أن يتطرق لمثل هذه المعلومات، بالإشارة أو بالتصريح. وما عليه إلا أن يبحث أكثر ويعدل حتى يحصل التطابق المفترض. وقد يكون هناك أشياء فعلاً من هذا النوع، ولكن الكم الكبير الذي أخرجته هذه المدرسة أصبح في أغلبه مجرد هوى وتحريف للمعاني وتلفيق لا يستقيم. ونعود ونقول: مع إن وجود شيء من هذا القبيل في القرآن الكريم وارد جدًا، والمتفكر في هذه الظاهرة يجد بينها وبين ظاهرة سبقتها في مطلع الحضارة الإسلامية تشابهًا كبيرًا جدًا في الطريقة والدافع، ألا وهي ظاهرة الإعجاز الكتابي– إذا جاز التعبير– وهي أن كثيرًا من المفسرين والمتأملين في ذلك الزمان كانوا كلما قرأوا معلومة في الكتب المقدسة، طارت أذهانهم إلى ما عساه أن يقابلها في القرآن الكريم، بالقناعات نفسها الحاصلة عند أصحاب الإعجاز العلمي اليوم، وهي أن لديهم قناعة بصحة هذه المعلومات الموجودة في تلك الكتب، وكذلك أن القرآن لا بد أن يتطرق لها. وما عليهم إلا البحث أكثر في القرآن حتى يجدوا ما يفترضون أنه يقابل تلك المعلومات. وبالطريقة نفسها يُلوون أعناق المعاني ويجرّون المفاهيم حتى تبدو متطابقة مع ما في القرآن بحسن نية، تتمثل في أنهم بهذا يثبتون مصداقية القرآن طالما أن ما جاء فيه يطابق ما عند أهل الكتاب. وكذلك وقعوا في كثير من الأخطاء لهذا السبب. والتشابه بين هاتين المدرستين كبير ويطول سرده، ولكن قد يكون التشابه الأهم هو المشكلة التي أنتجتها هاتان المدرستان وهو أنه مع الوقت أصبحت للأسف كثير من الأخطاء التي وقعوا فيها يُظن من قبل العامة أنها جزء من الدين، وأنه لا يجوز نقضها أو إعادة التفكير فيها، أو إعادة تفسيرها بناء على معطيات أكثر دقة وأقل تحيزًا. والمشكلة ليست في أصل الفكرة؛ فالفكرة مقبولة جدًا، أن يرد في الكتاب العزيز إشارات يُفهم منها معلومات علمية، «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير»، وكذلك من الوارد جدًا أن يذكر القرآن معلومات ذُكرت في الكتاب المقدس فمصدرها واحد. ولكن المشكلة في عدم منهجية ذلك، وفي أن نتائج طريقة التأمل أصبحت تُعامل كأنها حقائق لا يجوز نقضها، وهذا قيد التفسيرات اللاحقة، ورَسَّخ مفاهيم قد تكون غير دقيقة.