أتذكر أنني كتبتُ مقالًا هنا بعنوان «لماذا الاستدامة؟»، حاولت من خلاله تفسير سبب اختيار سمو ولي العهد لكلمة «الاستدامة» في مقولته: «عازمون على تحويل الرياض إلى واحدة من أكثر المدن العالمية استدامة»، وكيف أن هذا المصطلح يعني أكثر مما كنا نظن، وأنه لا يقتصر على ديمومة الإنتاج أو كونه مرادفًا ل«الطاقة المتجددة» فحسب، بل يتجاوز ذلك ليشمل كل تفاصيل الحياة من حولنا، حتى لو كنا بدوًا رُحَّلًا نعيش في صحراء قاحلة. باختصار، ما نراه اليوم من أحداث عالمية يجعلنا نُدرك أكثر ما الذي تعنيه «الاستدامة»، وأننا من نصنع لحياتنا قلبًا نابضًا، أو نحولها إلى جسد متهالك ينتظر نعشه. فما نراه من نشل وسرقة وتخريب وتكسير في بعض الدول، يُعد مثالًا واضحًا لشرٍّ يكشف كيف يمكن أن تصبح الحياة من حولنا إن لم نُؤسسها على مبدأ الاستدامة. وهذا الخراب ما هو إلا نتيجة للفجوة بين المجتمع المهمش والمجتمع المخملي، أو كما قد يكون أدق وصفًا: المجتمع الرأسمالي. فلو قارنا ما يدور حول متجر لشركة «أبل» في تلك المناطق التي تتعرض لتلك الأفعال «البهيمية»- إن صح التعبير- مع ما يجاور متجرًا للشركة نفسها في مدينة الرياض، فأيهما أكثر أمانًا؟ وأيهما أكثر جذبًا للمستثمر ليبقى؟ بلا شك، الرياض تتفوق دون منازع. وإن رفعنا رؤوسنا إلى السماء، لوجدنا أجواء المملكة، وعلى مدار 24 ساعة، تمتلئ بطائرات تعبر بسلام من الهند إلى أوروبا، على سبيل المثال. رغم أن أجواء أخرى قد تكون أقصر مسافة وأقل تكلفة، إلا أن السياسات التي تحكم تلك الأجواء لا تقوم على الاستدامة. فكثرة التسلح مع إهمال بناء اقتصاد متين قائم على التنمية لا الربحية فقط، يجعل الأمان يتلاشى مع الزمن، وهو ما تعيشه تلك الشعوب بينما نعيش نحن في المملكة اقتصادًا يشهد أعلى وتيرة نمو خلال السنوات الخمس الماضية، خصوصًا بعد جائحة كورونا التي لا تزال كبرى الاقتصاديات العالمية تترنح تحت وطأتها. ومن يُتابع نهج المملكة في موسم الحج، يُلاحظ كيف لم يكن التركيز على المكاسب المادية بقدر ما كان على توفير الأمان للحاج؛ ما أسهم في تجنب حالات التزاحم الشديد أو الإهمال التي قد تؤدي إلى وقوع آلاف المرضى، في مشهد يوضح أن الاستدامة تشمل كل ما حولنا، متى ما جعلنا جودة الحياة واستمراريتها أولوية على الجني التراكمي للأموال، دون اعتبار لاحتمالية أن يتحول ذلك التراكم إلى جحيم لا يُبقي ولا يذر، فلم تَعُد الاستدامة تُرى فقط على الأرض، بل أصبحت «استدامة في الأرض والسماء».