إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    البنك الإسلامي يناقش تحوُّل دوله لاقتصادات مستدامة    تكريم الطلبة الفائزين بجوائز "أولمبياد أذكى"    الإبراهيم: المنتدى الاقتصادي سيعيد تحديد مسارات التنمية    المالية تعدل اللائحة التنفيذية لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية    نقل حالتين طبيتين حرجتين لمواطنين من مصر    رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي: الرياض تحتضن اجتماعا دوليا حول غزة هذا الأسبوع    مدرب توتنهام: لا يهمني تعطيل آرسنال نحو التتويج    بالاسيوس: أتمنى أن يبقى ميسي مع الأرجنتين للأبد    "الداخلية" ترحل 12 ألف مخالف    تحديد مواعيد التقديم على بوابتي القبول الموحد للجامعات الحكومية والكليات التقنية بالرياض    قتل مواطن خان وطنه وتبنى منهجاً إرهابياً    "911" يتلقى أكثر من 30 مليون مكالمة خلال عام 2023    فرنانديز يدعو يونايتد لزيادة دعم جارناتشو وماينو    الحقيل يبدأ زيارة رسمية إلى الصين الأسبوع المقبل    بايدن يدرس تقييد مبيعات السلاح لإسرائيل إذا اجتاحت رفح    الوزير الفضلي يدشّن "أسبوع البيئة".. غدًا    إبداعات 62 طالبًا تتنافس في "أولمبياد البحث العلمي والابتكار"غدا    قطاع صحي خميس مشيط يُنفّذ فعالية "النشاط البدني"    استكشاف أحدث تطورات علاج الشلل الرعاشي    المكتب التنفيذي لجمعية الكشافة يعقد اجتماعه الأول الاثنين القادم    ترقية الكميت للمرتبة الحادية عشر في جامعة جازان    القيادة تهنئ رئيس جنوب أفريقيا بذكرى يوم الحرية لبلادها    جعجع: «حزب الله» يعرّض لبنان للخطر    «الاحتياطي الفدرالي» يتجه لتغيير لهجته مع عودة التضخم    زلزال بقوة 6.5 درجة يهز جزر بونين باليابان    ابن البناء المراكشي.. سلطان الرياضيات وامبراطور الحساب في العصر الإسلامي    عهدية السيد تنال جائزة «نساء يصنعن التغيير» من «صوت المرأة»    أمطار خفيفة على منطقتي جازان وحائل    فرصة مهيأة لهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    بينالي البندقية يزدان بوادي الفنّ السعودي    كبار العلماء: من يحج دون تصريح "آثم"    الأهلي والترجي إلى نهائي دوري أبطال أفريقيا    فريق طبي سعودي يتأهل لبرنامج "حضانة هارفرد"    "طفرة" جديدة للوقاية من "السكري"    إغلاق منشأة تسببت في حالات تسمم غذائي بالرياض    الصحة: تماثل 6 حالات للتعافي ويتم طبياً متابعة 35 حالة منومة منها 28 حالة في العناية المركزة    وفاة الأمير منصور بن بدر    نائب أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة 2030 من إنجازات ومستهدفات خلال 8 أعوام    اختتام المرحلة الأولى من دورة المدربين النخبة الشباب    ريال مدريد يهزم سوسيداد ويقترب من التتويج بالدوري الإسباني    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    الاتحاد يخسر بثلاثية أمام الشباب    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    رؤية الأجيال    وزيرة الدفاع الإسبانية: إسبانيا ستزود أوكرانيا بصواريخ باتريوت    المخرج العراقي خيون: المملكة تعيش زمناً ثقافياً ناهضاً    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    ترميم قصر الملك فيصل وتحويله إلى متحف    السعودية تحصد ميداليتين عالميتين في «أولمبياد مندليف للكيمياء 2024»    الأحوال المدنية: منح الجنسية السعودية ل4 أشخاص    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    "واتساب" يتيح مفاتيح المرور ب "آيفون"    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    مقال «مقري عليه» !    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصديق الضائع
نشر في الشرق يوم 25 - 10 - 2012

يدقُّ جرس المنبه في ساعاتِ الصباح الباكر من كلِّ يوم، وتشد دقاته المتسارعة سفينتي بسرعة وغلظة من بحرِ النوم، وأمواجه الهادئة الحالمة، وتُلقى المرساة الثقيلة الصدئة -مرة أخرى- في أعماق شاطئ اليقظة بأمواجه المتلاطمة الصاخبة، أفتح عيني وأستيقظُ لتبدأَ رحلتي المضنية مع الضوضاء والضجيج والصخب، أغسلُ وجهي بالماء، فيصيح الماء حال خروجِه من الصنبور، وأحياناً تشاركُه الأنابيب بصراخِها وعويلها، كأنها تنكرُ عليَّ إزعاجها في هذا الوقتِ المبكر.
أهربُ من عيونِ الصخب، وأستتر في ثنايا صلاتي ودعائي للحظات، وما إن أنتهي حتى تباغتني صافرةُ مسخِّنِ الماء بندائها العالي، إنه يخبرني في هدوء الصباح -وكل من يسمعه من الجيران- بلغة نشاز لا تعرفُ الرقةَ ولا الذوق السليم، بأنَّ الماء جاهز لإعدادِ الشاي، أقفز إليه وتكاد تسبقني روحي إليه، وأطفئ الموقدَ تحته، لأعيد بعضَ السكينة إلى قلبي الذي تعالت نبضاتُه وتسارعت.
أهرب مرة أخرى من الضجيجِ في رشفاتٍ رقيقة وهادئة، حرصت أن لا تسمعها أذنُ كوبِ الشاي الساخن، ولعلي أغفل أو أنعس قليلاً، ولكن سرعان ما يعكِّرُ تأملاتي الحالمة تلك الدقات الرتيبة المتلاحقة، إنها ساعةٌ معلَّقة على الحائط، شاخصة بأرقامها السوداء التي تحاصرني في دوامةٍ لا تنتهي، لا تكلُّ ولا تمل، ولا ترق أبداً لحالي، يا لها من جاحدة للمعروف! أنست أو لعلها تناست أني اشتريتُها بحرِّ مالي، ورحبت بها وآويتُها في داري.
ألبس ثيابي بسرعة بعد الإفطار، وأتجه للبابِ فأفتحه بحذرٍ، خوفاً من أن أوقظَ مفاصله النائمة، ومع كلِّ هذا الحرص تستيقظُ مفاصلُ الباب، وتناديني بصريرِها المتتابع، وتذكرني بحاجتها لبعضِ الزيت، أقفل البابَ في عجل، وأتجه إلى سيارتي، أدير محركها، فيهدر بصوتٍ كأنه ريح عاصف، أو زئير أسد غاضب يكاد يقتلعُ قلبي اقتلاعاً، إنه يخبرني بأنه لم يدفأ بعد من بردِ المساء الطويل، أهرب من صراخِ المحرك، وأشغل المذياعَ لسماع الأخبار، ويا ليتني لم أفعل، كلمات، ومفردات، وأحداث، تصرخ، وتصرخ، وتصرخ، ولا يقوى على كتمِها صوت ناعم ولا نبرة رخيمة، زلزال وهزات أرضية، تفجيرات وقتلى، نداءات مؤرقة من الميادين والساحات، شبيحة وبلطجية، وآلام وآنَّات وآهات.
أصِلُ إلى مكتبي، وأمد يدي إلى جيبي، وأخرج مفتاحَ باب المكتب، وما إن أفتحه حتى يحييني الحاسوبُ بأنّاته اللامتناهية، ويشاركه -في إزعاجي- ضوءُ المكتبِ بصفيره وهمهمته.
كل هذه أصوات ظننت -خطأً- أني قد اعتدت عليها وألفتها، ولكن الحقيقة -التي لا تُنكر- هي أني مازلتُ أشتاق إلى ذلك الصديقِ القديم الذي ضاع في زحمةِ المدينة شيئاً فشيئاً وأحنُّ إليه، فأنا لم ألقَه منذ زمنٍ بعيد، عجيب ذلك الصديق الضائع، كان يهوى العزف، ويحسن صياغةَ الألحان، كان يعزف ويغني أعذبَ الألحان بدونِ وتر ولا دف ولا مزمار، وتأخذ ألحانُه بمجامعِ القلوب، ويسحر غناؤه الألباب، ويا للأسف فلقد هرب هذا الصديق، وهاجر بعيداً بعيداً، واختفى وضاع حينما حاصرته جيوشُ الأجهزة الميكانيكية والآلات الكهربائية بصفيرِها، وصريرها، وفحيحها، وصراخها، وهمهمتها، وكل أصواتها النَّشاز المزعجة.
هذا الصديقُ هو «الصمت» الذي يحلو لبعضِهم أن يسميه أحياناً: السكون، والسكينة، والهدأة، والهدوء، ولطالما أعان هذا الصديقُ الصدوق على الفكرِ الصافي والتأملات الجميلة والمبهجة؛ كأنه شجرةٌ مثمرة ظلالها وارفة، ثمراتها فكر وتفكر، وتأمل وتدبر، وعظة وعبرة، ورأي سديد، ورضا وحبور، وفتوحات ربانية، واستغفار وتوبة، واستقامة وأوبة، وصبر وصلاح حال، وإبداع، وتجديد.
حينما دقت جيوشُ ضوضاء المدينة طبلة الأذن بلا رحمة أو شفقة في كلِّ وقت وحين تعكر الفكر، وهربت التأملات، واضطربت النفس، وضاع السُّكون.
يا ليتهم اخترعوا برادة للطَّعامِ تعمل بلا صوت، أو بصوتٍ كأنه تغريد العصفور، تحمله نسماتُ الربيعُ الباردة، يا ليتهم جعلوا صوتَ محرِّكِ السيارة يحاكي قطراتِ المطر، ليتنا صنعنا مصابيحَ بصوت شجي ندي كأنه خرير الماء، أو ضحكات أوراق الشجرِ حينما يدغدغها نسيمُ الفجر، ليتنا عاهدنا أنفسنا حين نخترع آلة أن يكون صوتُها مستوحًى من غناءِ البلابل، ورقص الأغصان، وموج البحر، وضحكات الأطفال، وأنفاس السحر، وهمسات العشاق.
هل يطولُ انتظاري للقياك يا صديقي الغائب؟ أم عسى أن يكون الوصال قريباً؟ حين يرق قلبُ الحاسد والعاذل؛ فيوقف سيلَ الكهرباء عند أبواب المدينة، فتُشل الآلات، وتصم وتبكم كلُّ مصادرِ الضوضاء والصخب التي تؤذي السمعَ وتؤرق الروح، عندها تتسلل أنت إليها، وترجع إلي يا صديقي العزيز، فألقاك وأعانقك، وأمتع روحي المتعبةَ بألحانك الندية في لحظةٍ أو لحظاتٍ قصيرة هي أغلى عندي من ألف ليلة وليلة في صخب المدينة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.