بعض الكتاب يرغب في كتابة ما يهم الناس، ليلتفت القارئ ويخصه باهتمامه، يغازله بالفكرة والإشارة وأحيانا يتجرأ ويغمز له بعنوان مثير. لكن القارئ منهك من الركض، بمجرد أن يستيقظ مفزوعا من تأخره (وهو دائما يشعر بأنه متأخر)، يلهث وكأنه في سباق قصير عليه أن يقطعه في نفس واحد، ودائما يصل خط النهاية قبل الأخير، ولا يفوز إلا بفرصة الاستمرار في السباق، وهكذا دواليك.. ودواليك هذه اخترعت لتكون بديلاً عن دولاب الهواء الذي يلف ويدور دون انقطاع، وللتقرب من المغزى أكثر، يمكن القول إن دواليك تشير إلى إنسان العصر الحديث المهموم بالسعي الدائم وراء الرزق، بعزيمة من يحلم بتحقيق الأمل، يمشي وربما لا يرى ويتخيل الدرب ممتدا والهدف يلوح على مقربة. القارئ التابع ليس منتجاً على الإطلاق، بل هو يجتر ما لديه من موقف مسبق، ورأي مغلق راكد، لن يستفيد ولن يفيد، ولا يخرج عن المعية ويستغفر الله إن شطحت قدمه خارج السياق، ليتدارك أمره بكفارة يقسو فيها على نفسه لتتوب عن غيها ولا تكرره. وهناك كاتب يدور في فلك حدده لنفسه أو حدده له غيره، تراه يهب كلما هبت الريح وهمست في أذنه أو لكزته فكرة الآخر، فيقفز مثل ملدوغ، صارخا بأعلى صوت يملكه وكان يخبئه للملمات، لا ينتبه ولا يريد أن ينتبه إلى أن صرخته في قطيع من الصرخات المتشابهة والمدفوعة من نفس المنطق، لدرجة أن تقرأ مقالات كلماتها تتشابه ومفرداتها تتطابق ومعانيها نسخ مكررة، كأن آلة واحدة طبعتها بحبر له رائحة واحدة. مثل هؤلاء الكتاب تنقصهم المخيلة والابتكار، كأنهم طابور مستنسخ، في خط إنتاج آلي، تنقصه الروح والفرادة والإبداع. مقالاتهم تملأ المطبوعات، تعرفهم من تلك الرائحة المشتركة بينهم، لغتهم مروضة، بلا ألفة، كلمات ببغائية بلا طعم، حروفهم هلامية بلا ملامح، قناع لن تلمح عليه تعبيرا أو حسا إنسانيا، ذاك هو قناع الكتبة حين يكون قلمها غير منطلق من إبداع. يسهل معرفة هؤلاء وهؤلاء، فالقارئ الذي على شاكلة هؤلاء الكتاب تجد ردوده أو تعليقه على أي مقال بكلامه المكرر والمعاد، أمام كل موضوع، وأكثر ما يميزه هو تلك القطعية واليقين الذي لا يخر منه الشك، وبالطبع ستجده الأسرع في تصنيف الكاتب في قالب جاهز، والمنجم الثاقب عن كشف النوايا والحكم عليها، ليستريح من عناء التفكير ملتجئا إلى الطمأنينة.أما هؤلاء الكتاب الذين لا يسعون للإبداع، فمن أبرز صفاتهم، ذاك التلون الخاطف والسريع، ففي لمح البصر تجده ينقض كلامه في مقال لاحق، ليس من قبيل الاعتراف بالخطأ بل تحول بوصلة المصلحة كما يراها هو، ومن مزاياه الكيل بمكاييل عديدة، حسب ما هبت الريح، منهم من يظن ذلك استباقاً يؤجر عليه، ومنهم من يخترع الذرائع ويلوي التفاسير، أما أشدهم عزيمة وأكثرهم حماسا، فهو الذي يزايد منهكا طاقته في إثبات نبوغ الآخرين، باحثا في شتى العلوم عما يسند قوله ويقعده ويرسخ له في حين أن «معزبه» ينفي بكلمة واحدة.