العمل الجراحي بين ألمانيا والشرق كان قفزة عجيبة، سألنا يومها عن العمليات البسيطة مثل المرارة، وهل تُوجد تي درين «T – Drain»، وهي وصلة مطاطية توضع في الأقنية المرارية لاستئصال الحويصل المراري، بالدخول إلى القناة الجامعة، يسمونها بالإنجليزية CBD=Common Bile Duct، فقالوا لا نعرفها، وهي غير موجودة، فحاولنا استيرادها من البحرين، وقلت هل تقومون ب «وزن الضغط» في الطرق المرارية؟ لم يكن أحد يعرف هذه التقنية، فخطر في بالنا أمور كثيرة للتطوير؛ لنكتشف أن الجو مريب، ومحفوف بالمخاطر، والتحقيقات، والغرامات، وكان علينا الاحتراس لكيلا نقع في أي ورطة طبية، وهذا الذي حصل مع زملائي في عديدٍ من الحالات، فكنا نردِّد قول المصريين: النفخ في الزبادي وهو بارد مع تجربة احتراق اللسان في الشوربة الحارة. كانت مشكلة توفر الأدوات مشكلة كبيرة؛ فكيف يمكن «التداخل» على الأوعية دون الملاقط التي «لا تؤذي بالعض». كانت العمليات التي تُجرى لمرضى الفشل الكلوي تشكِّل عذاباً للجرَّاح والمريض، وتُجرى بقساطر وقياسات محدودة، تُقحم في الشريان ليتم استئصالها لاحقاً، وترقيع الشريان من جديد، حتى تم تطوير قساطر الغسيل الحالية التي تعمل برفق وسرعة ونتيجة، أظن أن اسمها «سكريبنر شنت». أذكر زميلي الدكتور اللاذقاني، رحمه الله، سمعت أنه توفي بمرض غريب «سرطان الرئة»، رغم كونه غير مدخن، كما سبقته زوجته أيضاً إلى دار القرار بسبب نفس المرض، ولكن في البطن، رحم الله الاثنين، فقد كانا من خيرة مَنْ عرفتهم. استنجد بي يوماً في قاعة العمليات، وقال لا أدري ما الذي حدث معي أثناء عملية لمريض يمني، عنده مشكلة في الكلية اليمنى، فقمنا باستئصالها، ولكنني أشك في أنني قطعت شرياناً كبيراً، فهلا تكرَّمت، ورأيت ما الذي حدث؟ سألني لأنني خبير في جراحة الأوعية الدموية. نفس المشكلة حصلت مع الزميل إياد العنزي، حين كان يعالج مريضاً يمنياً يعاني من مرض البلهارسيا، ونزف نزفاً شديداً من المريء بفعل «فرط التوتر البابي، Portal Hypertension» في الوريد الضخم، الذي ينقل الدم من الأمعاء إلى الكبد، وهو المرض الذي انتقل إليهم في اليمن من الجنود المصريين، خلال حملة عبدالناصر في حرب 1967 م؛ كما تحاول إيران حالياً التهام كل المنطقة تلبية ل «شهوة التوسع». كان يسأل أيضاً عن توفر «الجرافت Graft» أي الشريان الصناعي، لنقل تيار الدم من مكان الضغط إلى مكان أخف، وهو ما يعرّفه جراحو الأوعية بكلمة شنت (shunt). بخصوص الدكتور عبدالمجيد اللاذقاني، ومشكلته مع المريض اليمني؛ فقد نظرت في المكان المُعالَج، وفحصت النبض في الشريان الفخذي أسفل المكان المشبوه، قلت له لا يوجد نبض، فارتسمت على وجهينَا ابتسامة صفراء، قال ما معنى هذا الكلام؟ قلت له لابد من «تصنيع الشريان المقطوع»، وهو شريان هائل، يغذي كامل الطرف السفلي، ولكن يا صديقي ليس ثمة شريان صناعي نتجاوز به مكان القطع؟ سأل بلهفة: وما العمل؟ قلت له هناك طريقة ترقيعية لحل المشكلة، وإنقاذ الطرف من بتر محتَّم، ريثما يتم إصلاح العطب جذرياً في المستقبل. فسأل وما هي؟ قلت له تسليخ الشريان من فوق من مصدره إلى الأسفل حيث مصبه، وتجاوز مكان القطع بوصل نهايتي الشريان المقطوع، وهو ما فعلناه، ولكن الشريان في مثل هذه الحالة يصبح تحت «آلية شد»، تهدِّد سير الدم، ويجب إصلاحه بشكل مؤكد لاحقاً. نجا المريض، ولم أعرف ما الذي حدث لاحقاً، لأن رحلتي كانت في اتجاه مناطق قرود البابون في جبال عسير الشاهقة.