لم يفصل بين رحيلهما سوى يومين. توفي الدكتور أسامة عبدالرحمن في يوم الخميس الموافق 18 محرم 1435ه.. وبعد عودة الدكتور محمد الرشيد معزياً في الدكتور اسامة لقى وجه ربه مساء السبت 20 محرم 1435ه . رحلا في عمر متقارب، كانا احد اعمدة جامعة الملك سعود (الرياض سابقا). يعدان من طلائع الجيل الذي عاد بشهادة الدكتوراه من امريكا لتبدأ به ومعه مسار التنمية الشاق والطويل. وللتنمية في بلادي مسارات وحقب بينها ملامح وملامح .. إنما أكثرها تأثيرا تلك التي اشرقت منذ منتصف السبعينيات الميلادية. عرفت الراحل اسامة عبدالرحمن قبل خمسة عشر عاما. تعددت اللقاءات بما يكفي لاكتشاف ملامح شخصية مختلفة. كان عروبيا مؤمنا ايمانا عميقا بقدر أمته. الا ان مرارة كانت لا تفتر تعبر عنها زفرة حادة ولحظات صمت وعودة لاستلام فكرة تقترب او تبتعد عن الفكرة الاصل.. ثمة لحظات من المرح الجميل تعبر عن الكامن في تلك الشخصية التي لا تظهر بسهولة سوى في لحظات تجلّ واستطراد. لست في موقع تناول شاعرية الراحل اسامة عبدالرحمن فهذا ما لا املك ادواته. وإن كان بمقدوري ان اعبر عن رأيي في العديد من الكتب التي اصدرها، وهي تنضح بروحية الصدق ومحاكمة الباحث الأمين.. وإن كانت احيانا تتوقف عند حد المكاشفة لتغرق في مستوى المداورة والمناورة. وفي كتابه "الاربعون إداريا".. يظهر جانبا من شخصية اسامة عبدالرحمن التي تتفجر ضيقا وهي ترسم ملامح مرحلة بادارييها وعناوينها ومعاركها في اتهام مباشر لعملية تنموية ظلت تعاني – كما يقول - من الشلل والاخفاق. ومما أذكر انه كان يفخر بشاعريته على ما عداها. ولا زلت اتذكر عبارة غازي القصيبي رحمه الله التي اشاد فيها بشاعرية اسامة والتي سمعتها من الراحل مرارا. لم يأخذ اسامة قدره في حياته.. فهل تكون هناك التفاتة بعد رحيله لعلها تعترف له بما كان سباقا له بين أبناء جيله؟ عرفت في اسامة كبرياء المثقف وأنفة وحساسية استاذ الجامعة لكرامته. وعندما بلغ سن التقاعد لم تعرض عليه جامعة الملك سعود البقاء بشكل او بآخر، ولم يطلب ولم ينتظر. في آخر مكالمة بيننا قبل سنوات لم يكن ودودا.. ولم التمس له العذر.. ومنذ ذلك الوقت مضيت كعادتي.. لم أعد ولم يعد هو أيضا. كم ندمت على قطع حبال الوصل لأمر كان يمكن معالجته بالصبر وبعض الحلم على تلك القامة الكبيرة. حاولت فيما بعد تسقط اخباره. ادركت أنه اعتزل الناس ولم يعد يختلط بهم وأنه يفضل عزلته ولم أحاول اقتحام عالمه الاخير الذي ارتضاه لنفسه. لم يكن الدكتور اسامة عبدالرحمن يجيد فن العلاقات العامة، وهذا امتياز او ربما اصبح أحيانا مجاملات باهتة لا يقوى عليه أياً كان. رحم الله الفقيد اسامة عبدالرحمن ولعل سجله النظيف وفكره النير يبقى شهادة له وصدقية لموقفه ونبراسا من بعده. أما رحيل الدكتور محمد بن احمد الرشيد، فكان فاجعة لأهله ومحبيه واصدقائه ومن يعرفونه عن قرب. وإذا كان اسامة عبدالرحمن رحمه الله اعتزلنا منذ سنوات.. وكان موقفا احتجاجيا ونفسيا يناسب ويليق بشخصية اسامة عبدالرحمن.. فإن محمد الرشيد ظل يحافظ على حضوره، حتى بعد ان انحسرت عنه اضواء الوزارة.. حتى اصبح زميلا وكاتبا اسبوعيا في صحيفة الرياض. ولعل ما ساهم في حضور شخصية محمد الرشيد رحمه الله، ما تتميز به من ود وتواصل جميل جعل كثيرين يرون فيه انسانا قريبا منهم، عزز هذا بأريحيته ومجاملاته اللطيفة وحدبه على الناس. ولعل المرحلة الأهم في حياة محمد الرشيد، جاءت عندما عين وزيرا للمعارف التي اصبحت في عهده وزارة التربية والتعليم. إنه المجال الذي عمل به ودرس قضاياه وانهمك في مسيرته. واعتقد انه اعتبرها الفرصة السانحة ليصنع ملامح تعليم مميز يمكنه من وضع بصماته بثقة في مسيرته من خلال تطويره وتعظيم موارده. إلا ان تسع سنوات لم تكن سهلة، خاصة وان تعليم البنات أصبح جزءا من مسؤولياته، وتلك المرحلة اثارت حساسيات كثيرة حول التعامل مع تعليم بنات يحمل خصوصية سعودية منذ اول يوم شرعت فيه الدولة لتأسيس هذا النوع من التعليم. واجه محمد الرشيد حملات ظالمة. قادت الى حالة من التشويه ساهم فيه كثير ممن لا يدركون خفايا الامور او تفاصيلها. لم يكن محمد الرشيد منبتّاً عن تربة هذه الارض ولا عن وعيه بثقافة مجتمع، وربما لم يعرف كثير من هؤلاء انه عميق الالتزام بدينه وثقافته وعروبته.. إلا انه ربما لم يحسب حسابا جيدا لتأثير الحملة المضادة التي نجحت في إقالته من الوزارة وقد كان حينها في مهمة عمل في الكويت. لم يخف الراحل محمد الرشيد مرارته من تلك الحملة. وظل يدافع عن نفسه دفاعا مستميتا ولكن هيهات. فلم تكن المرحلة لتتحمل كلاما عن تغيير مناهج خاصة ما يطال منها الديني ليصبح مقعد الوزارة في عين العاصفة.. ناهيك انه ربما تضرر من التركيز الاعلامي على نشاطاته ما قاد إلى نتائج سلبية على مستوى تعاطي الشارع مع مشروعات لم تر النور بعد، ولازالت افكارا واحلاما في ذهن الوزير. الحق يقال بأن الراحل محمد الرشيد كان فعالا في أي موقع تسنمه، وكان مسكونا بقلق الانجاز، إلا ان وزارة التربية والتعليم كانت شيئا آخر. وعندما يصبح المجال الذي يعمل فيه مصدرا للقلق خاصة ما يطال منه الثقافي والاجتماعي، فلا غرابة ان يكون هناك تيار مناوئ ومستعد للانقضاض خاصة في مرحلة تغيرات أزاحت شخصيات وقدمت اخرى لمواقع القرار. رحل اسامة عبدالرحمن، ولم يحظ بالاعتراف الذي يستحقه. فكان ان عاقبنا بالعزلة لسنوات حتى رحيله المفاجئ. ورحل محمد الرشيد وهو مملوء بحب الحياة، يأتي معزيا في اسامة عبدالرحمن وهو يذكر فضائله ليرحل بعد ساعات. موت الفجأة مباغت للأهل والاصدقاء والعارفين للفضل. إنه ينشر الاحزان حتى لتظلل آفاق الكون، ويخل بالتوازن في لحظة الحقيقة الصادمة. إنما هو قدر الله ومشيئته وله كل التسليم والرضا. وإذا كان الموت واحدا، إلا ان الفراق بعد صراع المرض يهيئ مساحة الحزن لتلقي الخبر الاكيد. فكم من عزيز ذقنا حزنه قبل الفراق. وكم من انتظر تلك اللحظة التي يوقن فيها ان صراعا لابد ان يحسم، وهو في كل الاحوال مصيره الحسم لصالح الحياة الباقية. اتأمل في حياة الراحلين، شخصيتان مختلفتان. من منطقتين مختلفتين، بمزاجين مختلفين، جمعتهما زمالة الموقع وزمالة اللحظة التاريخية التي قدمتهما في مشهد التعليم الجامعي قبل اكثر من ثلاثة عقود.. واخيرا جمعهما قدرهما مع الرحيل!! أتأمل تلك النخبة التي صنعت لنا عالما افضل بما اوتيت من قدرة ومن فضل موقع.. أتذكر في هذه اللحظة الراحل غازي القصيبي زميلهما الاثير، اتذكر أساتذتي في قسم الفيزياء في جامعة الملك سعود الذين رحلوا محجوب عبيد، ومحمد حماد، وفيصل الشيخ.. وآخرين لا أعرف أين هم الآن، وإلى أين انتهت بهم الحياة؟ أتأمل حد النهايات بين معتزل حمل كبرياءه معه.. وبين عاشق للحياة تحمله مرونته وقابليته للبقاء في المشهد حتى اللحظة الاخيرة. رحمهما الله رحمة واسعة.. تتسع للسابقين واللاحقين و"إنا لله وإنا إليه راجعون".