1 سمع وقطف المصمم الفرنسي إيف سان لوران قوافل وأطنانا من النعوت والأوصاف النفيسة ذات الفولتية الشاهقة من الكلام والتدوين ومنذ إطلالته الأولى ، وهو ما يزال يافعا في السابعة عشرة من عمره ، حين فاز بأول جائزة تصميم لزي من الكوكتيل باللون الأسود ، مع الفنان الشهير كريستيان ديور . دخلت الصالة التي تعرض فيلما وثائقيا عنه ، الكائنة في Les Halles التي تضم عشرات الصالات للسينما ، والمسرح ، صالونات التجميل وبيوت الموضة والمكتبات الخ . كانت الصالة صغيرة ومكتظة ، فلم اعثر إلا على مقعد قريب من الشاشة الذي يعرّض عيني للمزيد من التشويش ، لكني لم آبه ، واصلت الفرجة الخارقة للعادة ، والإصغاء لصوت رفيق حياته ومشغله ، رجل الأعمال بيير بيرجيه ، وهو يؤرخ للمحطات الفارقة في حياة هذا العبقري : "" أحدث ثورة في عالم الأزياء "" . "": وكان السيد الأعظم "" . كنت أرقب أصابعه ، يده ، ذراعه ، طريقة حركة المقص على نسيج الأقمشة وهو يقطعه ، فيبدو انه يريد التعرف على لحمه الخاص هو ، وان الزي واللون هو انتقاء ما لتخفيف الألم ، ألمه . كان نحيلا جدا ، شاحبا ، يشبه عصا الرعاة في البراري . رشيقا ، ومشذبا. والتواريخ تتوالى ، وعويناته الطبية يتبدل لونها بين الأسود والقهوائي إلا ان الإطار ظل سميكا ، فلم يتخل عنها في جميع الصور والعروض ومراحل العمر . كانت حياته الحميمة تمتلك تذوقها الخاص عبر التصاميم ، من الوعي بالجسد البشري الذي ، وعبر الأزياء جعل من نفسه شريكا إجراميا في فتنة المرأة بالرغم ، وربما بسبب خفره وخجله الشديدين. 2 في قصره الذي كان سيد الفيلم ، وهو واحد من قصوره المترامية ما بين جنوبفرنسا ، وقصره في مراكش الذي يلامس قصور غرناطة ، بالبرك والأثاث ، والجنينة الفردوسية . أما هذا القصر الذي كان أمامنا فكل بوصة فيه كانت تسيل جمالا لا يصدق ، كل زاوية أنجزت على مهل ثقافي ونفسي ، عاطفي وفكري ، اختيار اللوحات ، ألوان الستائر ، حجوم السجاد ، أشكال انيات الزهور ، لون الدهان ما بين الغرف ، جلود الكراسي ، وخشب الطاولات ، وذاك التنسيق المذهل لعلاقة الموجودات والمقتنيات بالتذوق الذي لا يستنفد لعذوبة وبهجة الوجود . هذا الفنان هو ثمرة عصر ثري ، لجيل استثنائي في المعمار والموسيقى ، في الرقص والفن التشكيلي ، في السينما والعلوم الإنسانية . فرد خارق ، كان يرى تصاميمه ، وإثارته على أجساد جميلات العالم نعمة ربانية ؛ كاترين دونوف ، رومي شنايدر ، الأميرة كريس كيلي . فيتحاور مع الفنون قاطبة ، منقبا وباحثا في جميع تقلبات المرأة ، فغيرّ وبصورة جذرية من حيوية وصدمة ما تلبس، حين وضع على كتفها سترة قصيرة ، وجعلها ترتدي السروال ، وتنزل إلى الشارع ، ارادها ان تبقى هي وهو أيضا . كان مهندس العلاقات الاخاذة ما بين اللون والنكهة ، بين استحقاق الحرير ، وملمس الدانتيل في جرأة لا تقاس إلا بدقائق ضوئية ، ونحن نفغر أفواهنا من الدهشة. 3 يتوالى الشريط ، والجمال لا يحتاج إلى ذرائع لكي يظهر ويمر ، والعروض على مر السنين تتعاظم وهو يردد : "" وجدت أسلوبي في التصميم عن طريق جسد المرأة "" . عرف هوسه بالارشيف ، فلم يرم ورقة خربش فوقها يوما ، ولا قصاصة من قماش كانت تمثل له أمرا خياليا . بقي متحفظا وخجولا لكن "" كان بمقدوره ان يكون مرحا وممتعا . لم يغادر منزله إلا نادرا ، وكان يلتقي بعدد قليل جدا من الاشخاص . يذهب بالسيارة إلى دار الأزياء ، وخلال تلك المسافة كان يرى الشارع "" يرى المرأة وهي تسير أمامه ويرى ما فيه الكفاية لكي يغير المخيلة الجمعية ، فبقي حتى العام 2000 وقت انسحابه من التصميم يمتلك نفسه حين يراها بمرآة ذاته فيعتقد انه أكثر من واحد، ربما ثلاثة ، مائة ، أو عصرا بأكمله . حضرت قبل فترة أسابيع المعرض الاستعادي الشامل لتراث إيف سان لوران في "" القصر الصغير "" . حين نقف أمام احد التصاميم ، أو نلاحظ ذلك في الشريط الوثائقي فيبدو الفنان ، إذا ما حرك يده كان يلملم ويرتب الجمال النادر من طبيعته ووحدته فيعيد توزيعه على ما حوله . الشريط هذا ، هو وثيقة انفجارية عن الافتتان بالشعر والجمال والسحر الذي كنا نراه في الحاشية ، حاشية الثياب ، وخاصرة المرأة حين كان يطارد الفتنة عبرها ، وهو ينفّذ وعلى جميع المستويات نوعا من الخلق الفريد ، لعصر ، اعتقد هو ونحن ، انه مسؤول عن مزاجه وذائقته الجمالية والثقافية . في العام 1961 أنشأ دارا باسمه ، وفي نهاية تسعينيات القرن المنقضي انحسر نفوذ موديلاته ، وانخفضت أرباح مشغله فاضطر لإغلاقه عام 2002 . بقي رفيق دربه وفيا وهو يفتتح مؤسسة خاصة تعني باسم الفنان وارثه ، فبدأ ببيع اللوحات الشهيرة الموقعة باسماء مشاهير عصره ، كان الكرسي الجلدي بتصميمه الفريد أمامنا ، وهو يباع بسعر 18 مليون يورو ، فقط لأنه الكرسي المفضل والمحبب ، والذي ظل يجد راحته في الجلوس عليه. 4 في العام 2000 اقمت ولفترة عام في حي الفنانين المجاور لمتحف جورج بومبيدو للتفرغ ، بمنحة خاصة من البرلمان الأوربي للكتاب . دعيت يومها إلى ذلك الوداع الشهير الذي اقيم له في سرادق فخم وبهي ، في الساحة الشاسعة الواقعة أمام المتحف . ارتديت ما بقي في خزانتي من توقيعه : سروال وجاكيت طويل من الحرير الأحمر المطعم بالأسود ، وفوقه معطف مخملي أسود . هذا ما بقي من التوهج الغرامي القديم ، والزي يحاصرني لليوم ، وأنا في سن التقشف والتشاؤم والأفول . كنا نجلس في الوسط ، نحن مجموعة من الكتاب والصحافيين ومن جميع الجنسيات والألوان ، اللغات والأعمار ، وكان العبقري أمامنا يمشي على السجادة الحمراء ، والعارضات يتوافدن ، وأصوات من يجاورني تتلعثم بالحسرات ، فالحسْن يتوالى بصورة لا نظير لها ، وضوع كان يفوح بيننا من الياسمين ، والفلفل الحار ، أنواع من الحمضيات وروح القرنفل . كل شيء كان يتلاقح ما بين الترف والغنج وثمار الجنة . فالشريط الوثائقي الذي شاهدته أظهر جانبا قصيرا جدا من القداس الذي أقيم على روحه ، وبحضور الرئيس ساركوزي وزوجته ومشاهير القوم حين توفي في حزيران من العام 2002 لكي يترك لنا الوقت الأطول في حضرة كل هذا الشغف الجميل *** حال خروجي من الفيلم ذهبت حالا لأول صالون لبيع العطور . مشيت رأسا إلى جناح يحمل اسمه ، وقفت أمام عطره الأشهر L'OPIUM ، الأفيون . يوم كان ، وكنتُ ، وكنا ، ما أن نضع بضع قطرات حتى ننتفخ ، ننخدع ونتصور أن بشاشتنا ونضارتنا الروحية سوف تستقر ولا يغلبها غلاب . عطره كان صادما لكن لم ينقذ ، جريئا لكن لم يدعنا نقتحم ما فيه الكفاية ، مثيرا فجعلنا نتبخر بسرعة ضوئية . خلطة عطره كانت تضاعف الالتباس فيختلط الأمر علينا ما بين الوجد ومطاردة المحبوب فندخل نعيما اصطناعيا . وقفت طويلا وأنا أضع قطرات من عطوره القديمة والحديثة التي نزلت للتو ، جربتها واحدة بعد الثانية . تصورت ؛ ان كل هذه الروائح ما هي إلا منتجات بديلة عن شيء اختفى إلى الأبد . لا بلسم التولو، ولا خشب الأرز ، لا بخور الزعفران ، ولا زنبق الوادي الريان . كنت أسير باتجاه الباص رقم 70 ، أخذت مقعدي الأخير كالعادة، وكنت أعرف أمراً واحدا لا غير ، بقي الزيت الوحيد الذي لم تفارقني رائحته لليوم هو : سم نبات المرْ.