يوم الأربعاء قبل الماضي داهمنا مطر جدة هادئاً مسالماً، ثم انتهى عاصفاً. تحولت زخاته إلى سيول مدمرة جرفت معها المنازل والبشر، وظل تحتها، وفي أعماق تلك الحفر.. والوحل الذي لا يزال يغطي المناطق المنكوبة، عشرات البشر من المفقودين، والذين لا يزال ذووهم يبحثون عنهم. ما يقارب الأسبوعين على الكارثة، ولا حديث إلا عنها، ولا قدرة على الكتابة إلا من خلالها، ومن داخل اندفاعها. كل الصحف لا تزال تواصل الكتابة عنها، وكل الأحاديث لم تستطع أن تتجاوزها. هي الكارثة لا تزال تعيش فينا، وستظل ولوقت طويل، قادتنا إلى عوالمها دون بوصلة، ودون ارتباك. كان عيد الأضحى عيداً بلا عيد، خاليا من ملامحه.. مرير الساعات مرتبكا في انسيابه الاعتيادي، لم نستشعر حتى اللحظة أنه حضر وغادر. ولم ننعتق من تفاصيل دقيقة للكارثة ستظل تحيا بيننا، ومعنا لسنوات طويلة. للمرة الأولى في حياتي أجد نفسي غير قادرة على تقديم العزاء في صديقة أعرفها منذ زمن، ولكن تقاطعات الحياة اليومية باعدت بيننا ومع ذلك كلما التقينا ذابت تلك التقاطعات، وتحدثنا، وكأن الحياة بقسوتها لم تساهم في التباعد. مساء وقفة العيد وصلتني رسالة بأن «سناء» مشرفة مادة الدين فقدت في سيل جدة مع أفراد أسرتها. لم أستوعب الرسالة بسرعة، أعدت قراءتها، واتصلت بمن أرسلتها للتأكد من الخبر، وهل الفقد يعني أنهم على قيد الحياة، وأنقذوا؟ أم أنهم لا يزالون مفقودين؟ لا أعرف كم الأسئلة التي طرحتها عليها، لكن في المقابل كانت هي مثلي تحاول أن تعرف التفاصيل من أخريات. عند الفجر تأكد لي أنها توفيت مع ابنتها ضحى ذات السبعة عشر ربيعاً، وعبدالله البالغ من العمر 8 سنوات ورضيعة متعلقة بها عمرها عامان وزوجها يحيى إمام المسجد الذي وجد محتضناً طفلته ذات العامين، وغارقاً معها، إضافة إلى الشغالة، والمفقود أحمد 12 عاماً. لم أعرف منزلها الجديد الذي انتقلت إليه منذ ثمانية أشهر في حي المنار، ولم أستطع أن أتوازن، وأنا أحاول الذهاب إلى العزاء. كيف أعزي في أسرة أغلق بابها، وغادر أهلها جميعاً؟ وكيف سألتقي بأشجان ابنتها الكبرى 21 عاماً، وبيان 17 عاماً والتي زوجتها في 16 عاماً؟ وأنا أصعد درج المنزل الجديد الذي لا تزال رائحة البناء تعج داخله تملكني إحساس غريب من الفراغ، وعدم الاستيعاب لما يجري. ابنتاها متماسكتان، ولكن بعيون مشدوهة، والمكان تنساب داخله بمرارة مرارة الموت والفاجعة. أختها خلفي كانت تحكي وكنت أستمع بهدوء، بأن سناء كان يفترض أن تذهب إلى الحج مع أخيها يوم الأربعاء، لكن ولأن الجو جميل، أصر الزوج على إيصالها إلى هناك مع أطفالها، وبعد صلاة الظهر غادروا إلى مكة عبر الخط السريع. كانت أختها وابنتها على تواصل معها، لكن فجأة، قالت لهم، سنغادر السيارة يبدو أن هناك مياها قادمة نحونا، وأن من حولنا يغادرون سياراتهم. غادرت السيارة اللانكدروزر، وانقطع الاتصال بهم من تلك اللحظة. ظلت السيارة في مكانها، ووجدت حيثما غادروا، ولكن سناء الحاجة والتي اعتادت القاء المحاضرات داخل مخيم الحج رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، وجدت على بعد 30 كيلومتراً عن الحادث، وزوجها، وأطفالها في أمكنة أخرى. وبقي طفلها أحمد والمفقود حتى اللحظة، والذي تتمنى أخواته أن يكون على قيد الحياة، وهو إحساس سيظل ملازماً لهن طالما لم يجدن له أثراً. المشهد في العزاء موجع، وأليم، وملامح سناء الطيبة، والبريئة والمسالمة، والمحبة لأسرتها، والمكافحة، لا تفارقني، رحمها الله، ورحم أفراد أسرتها، وتقبلهم عزَّ وجلَّ من الشهداء. لكن من هو المسؤول عن هذه الكارثة؟ هل هي الطبيعة؟ أم الفساد الإداري؟ أم الإهمال؟ أم هناك ما لا نعرفه؟