فرغت للتو من قراءة ثانية لرواية "اسمي أحمر" للكاتب التركي أورهان باموك الذي اشتهر عالميا قبل فوزه بجائزة نوبل للآداب العام الماضي. ولا أبالغ حين أقول إن قراءة رواية من هذا النمط تولد صنوفا من تلك المتعة التي تجعلك تصفق من مقطع لآخر "الله الله.. أمان أمان". فالموضوع الرئيس غني غنى فنون زخرفة الكتب في الحضارة العربية الإسلامية التي هي حضارة كتاب في المقام الأول. ولعبة المقاربة السردية من الفرادة والأصالة بحيث لا تشبه شيئا مما قرأناه من قبل لكبار الكتاب شرقا وغربا. والأحداث التي تنمذج الشخصيات أقوالا وتصرفات وتبرز علاقات التفاعل فيما بينها هي من التنوع حتى لتتوزع بين أكثر قضايا الفكر والفن عمقا ودقة ورهافة وأكثرها عادية وابتذالا وقبحا. وبالرغم من كون لغة الترجمة غير موفقة في معظم الأحوال، حتى لا أقول إنها رديئة ركيكة في عمومها، إلا أن العودة لقراءة نصوص من هذا النمط هي إنعاش حقيقي لكل الطاقات الخلاقة في الذات القارئة. وفي كل الأحوال لا أريد ان أذهب بعيدا في الحوار مع هذا العمل الغني المتفرد الجذاب بكل المعايير. أريد أن اتخذه ذريعة للتوقف عند نموذج نقيض له في كل شيء. النموذج للروائي المغربي -الفرنسي الطاهر بن جلون الذي يتمتع بحضور قوي في المشهد الروائي العالمي، وقد تعززت مكانته في فرنسا حين أختير كأول كاتب عربي ينضم إلى الأكاديمية الفرنسية أو "مجمع الخالدين" كما تسمى. الرواية بعنوانAu pays"" - إلى البلاد، لبلاد، باللغة الدارجة للمهاجرين، وقد صدرت هذا العام عن دار نشر جاليمار الشهيرة. وأعدها نموذجا نقيضا لرواية أورهان باموك لأنها تبدو لي عملا غثا باردا مملا حتى لا يمكن متابعة القراءة دون مشقة. فمن الصفحات الأولى حتى النهاية تتكرر سلسلة طويلة من الكليشهات المعهودة والصور النمطية التي لا تخلو من تشويه وتحقير، والأفكار المسبقة التي أصبحت تحاذر تكرارها حتى وسائل الإعلام الأكثر خفة وعنصرية. ومما يزيد الطين بلات ويحول الخطل علات أن موضوع التنميط والتشويه والتحقير هم هؤلاء العرب المسلمون الذين ينتمي إليهم محمد بطل الرواية ويمثلهم في الوقت نفسه (وللاسم دلالة واضحة وفاضحة جدا هنا) !. بل إن هناك مقاطع محددة تكاد تكون إعادة صياغة ماكرة لمقولات ساركوزي الذي بنى جزءا من سياسته على الترحيب بالهجرة النوعية -هجرة الكفاءات أو النخب– ومراكمة القوانين القاسية لمحاربة ما عداها!. فالعم محمد هذا عامل من جيل المهاجرين القدماء –وعلى صيغة المحاربين القدماء ذات الوقع الدلالي العالي في السياق الفرنسي ذاته- أفنى زهرة عمره عاملا في المصانع الفرنسية. وبما أنه على وشك التسريح من العمل والتقاعد، فقد خطط للعودة إلى قريته بالمغرب لقضاء ما تبقى من عمره هناك، في البلد الأصلي. وحين ينجز مشروعه المستقبلي -حلمه الأخير- وهو بناء بيت كبير يجتمع فيع أفراد الأسرة الكبيرة من حين لآخر لا يحصد سوى الخيبة. فالبيت الحجري الكبير الذي بناه يظل فارغا موحشا لأن الأبناء والأحفاد ظلوا في فرنسا التي "تأكل الأطفال" كما يقول الروائي، وبكل سذاجة وفجاجة. وحتى إذ يجتمع الجيران القرويون البسطاء لمساندته ومواساته لا تجديه مبادراتهم نفعا لأنها طقوس عقيمة كثقافتهم المحلية ذاتها. هكذا تنتهي الرواية وقد تحول إلى جثة حية يتناوشها الذباب فلا يسترها غير ذلك القبر الذي حفر له أمام بيته الجديد ذاته!. طبعا لا يمكن أن تخلو الكتابة من ألاعيب سردية ماهرة يباشرها كاتب محترف يمتلك ثقافة عمومية، وبلسانين. لكن المؤكد أن الموت الحقيقي، الموت الأخطر، يكمن ويتجلى في لغة النص الميتة هي ذاتها. فمنذ الصفحات الأولى تطل، عبر آلية الاسترجاع والتعليق على ما مضى، صورة رتيبة لمسلم تعود أن يصلي وإن بطريقة روتينية، وصور مخيفة لحجاج مهووسين يتدافعون حتى ليقتل بعضهم البعض الآخر دونما وعي أو إحساس، وصور مرعبة لنظام سياسي ثقافي لا يتردد في قطع أيادي البشر لمجرد سرقة شيء بسيط. والمحصلة أن مظاهر التعصب والعنف والتخلف لدى العرب المسلمين تبدو كما لو كانت هي القاعدة التي قد يشذ عنها محمد الطيب المتسامح وقلة من أمثاله (وأمثال الكاتب بالطبع). وهكذا تجيء الكتابة الروائية حين تبدأ وتنتهي كخطاب غير روائي، أي كتابة تثوي وراءها دوافع ومقاصد غير فنية أو غير جمالية.. بل وغير إنسانية بمعنى ما. فحياة محمد البائسة تتحول إلى عبرة في حكاية الطاهر بن جلون الأكثر بؤسا (لا تهاجروا من بلادكم مثله فيصيبكم ما أصابه). ولكي لا يقال إن هناك رؤية نقدية خلاقة تبرر هذا التوجه الفكري المطلوب في كل نص ثقافي نعود مرة أخرى إلى أورهان باموك وروايته العظيمة. فنزعة التعصب الديني والفساد السياسي والانحطاط الأخلاقي حاضرة بقوة في النص، بل إنها تقف ظاهريا وراء جريمة القتل التي تفتتح المشهد الروائي وتظل تشد القارئ إلى نهاياته. لكن وعي الكاتب بالتباس التصرفات البشرية حينما تتجلى في ذراها القصوى يجعله يثري حوافز الفعل فلا يعود جريمة نوعية تتعلق بمجتمع محدد أو بثقافة محددة أو بدين محدد أو بحضارة محددة. وبصيغة أخرى نقول إن فعل العنف الغامض والصادم الذي يقع على شخصية النقاش الماهر والإنسان الورع الطيب ظريف أفندي يتأنسن وتتنوع أبعاده الدلالية حتى لنكاد نعجز عن اتخاذ موقف محدد ذهنيا أو عاطفيا إزاءه. والسبب أنه يغتني بحوافز بشرية عامة كالحسد والغيرة والحيرة والقلق واليأس والتنافس على المال والسلطة.. وحتى على أسباب السمو الأخلاقي والعملي عبر الفن أو عبر القيم الروحية (وكبار معلمي النقش يسملون عيونهم لكي يروا العالم ويرسموه بشكل أفضل)!. هنا تحديدا تبرز الفروق الحقيقية، أو الجوهرية، ليس بين روايتين بل بين رؤيتين للذات العالم والحياة والموت. فنص أورهان يشخص رؤية عميقة متسعة مرهفة تحاول أن تتقصى الجوانب الملتبسة في كل لحظة من حياة الكائن لتكشف عن المعنى ونظيره ونقيضه في كل قول وتصرف. فيما يطرح نص بن جلون رؤية مسطحة منمطة تحاول أن تقدم لنا دروسا في المعرفة والأخلاق والتاريخ فيما هي تعجز عن قول شيء لم نسمعه أو نقرأه من قبل.. وحتى الملل. ولكي نختمها بخير لنقرأ آخر ما قالته الأم شكورة في آخر مقطع من الرواية: "حكيت هذه الحكاية التي لا يمكن رسمها لابني أورهان لعله يكتبها. ثم أخرجت صرتي وفتحتها لأعطيه الرسائل التي أرسلها لي قرة وحسن، ومعها رسم الخيول الذي كان في جيب المسكين ظريف أفندي لحظة موته، وقد تلاشت ألوانه. إنه عصبي ومزاجي وتعيس دائما، ولا يتورع أبدا عن ظلم من لا يحب. لهذا فإذا ما عاد قرة تائها أكثر مما هو عليه، وبدت صور حياتنا أصعب، وشوكت أسوأ حالا، فاحذروا كل الحذر من الوثوق في أورهان لأنه ليس ثمة كذبة لا يقدم عليها لتكون حكايته جميلة وصادقة ".