تشغل الرموز الثقافية مكانة محورية في بناء الهوية الجماعية وصياغة المعنى داخل المجتمع وخارجه. فاللون الأخضر، والسيفان المتقاطعان، والنخلة في السعودية مثلًا تعبّر عن الوحدة الوطنية والإرث الثقافي العريق. هذه الرموز ليست عناصر جمالية عابرة، بل إشارات محمّلة بذاكرة وطنية عميقة، تعكس سرديات الناس عن أنفسهم وتكشف في الوقت ذاته كيف يراهم العالم. ويشير عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي كليفورد جيمس غيرتز (Clifford James Geertz) إلى أنّ الثقافة تقوم على نظام رمزي تتفاعل داخله المعاني وتتجسّد في صور حسّية وممارسات يومية. ولهذا، فإن توظيف الرموز الثقافية بوعي يعدّ ضرورة لضمان وصول الرسائل الثقافية بصورة أخلاقية وفعّالة، ولا سيما عند توظيفها في الفنون والإعلام والدبلوماسية الثقافية وخطاب الهوية الوطنية. ومن الأمثلة التي توضّح حساسية تلقي الرموز خارج سياقها رمزية الإبل؛ فهي في الثقافة السعودية رمز للصلابة والتحمّل والقدرة على التكيّف، وترتبط بموروث جميل وعميق. غير أنّ هذه الدلالة قد تتبدّل عند عرضها على جمهور غير سعودي؛ فبينما تعبّر محليًا عن الأصالة والثبات، قد تُقرأ في بعض الثقافات العربية أو الغربية بوصفها رمزًا للبساطة المفرطة أو الغرابة، وهو ما أشار إليه المفكّر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق (Orientalism) حين شرح آليات تمثيل الشرق في المخيلة الغربية. هذا التباين يؤكد ضرورة الوعي بالسياق عند توظيف الرموز حتى لا تنقلب رسالتها إلى عكس ما يُراد منها. ويرى عالم الدراسات الثقافية البريطاني ستيوارت هول (Stuart Hall) أنّ الرمز يمثّل نقطة التقاء بين الدلالة والهوية، إذ تُحمِّله الجماعات معاني نابعة من خبراتها وتعيد إنتاجه في سياقات جديدة. وهذا يعني أنّ أي استخدام غير واعٍ للرموز قد يؤدي إلى تشويه المعنى أو استدعاء حساسيات تاريخية، كما أوضح إدوارد وديع سعيد في تحليله للعلاقة بين الثقافة والإمبريالية. الرموز الثقافية ليست كيانات حيادية؛ فهي محمّلة بتاريخ طويل من التأويلات والصراعات والتحولات الدلالية. ومن ثمّ فإن حسن توظيفها يتطلب وعيًا سياقيًا يدرك الظروف التاريخية لنشأتها، ووعيًا تمثيليًا يلتفت إلى كيفية استقبال الجمهور لها، ووعيًا مقارنًا يراعي اختلاف التأويلات بين الثقافات. فغياب هذا الوعي لا يؤدّي فقط إلى إساءة استخدام الرمز، بل قد يحوّله إلى أداة لسوء الفهم بدل أن يكون جسرًا للحوار والتفاهم. وتتجلّى أهمية هذا الوعي في التجربة السعودية المعاصرة، حيث تُستخدم الرموز الثقافية لبناء صورة ذهنية عالمية جديدة عن المملكة. فالخط العربي والزخارف الإسلامية يحضران بقوة في المشروعات الثقافية والعمارة الحديثة، كما تُوظّف رموز التراث المحلي مثل القهوة السعودية والزي الوطني والنخلة لتعزيز الهوية في الفعاليات الدولية ضمن إطار رؤية 2030. وقد أثبتت التجربة نجاحًا لافتًا في رمزية الخزامى حين استُبدل السجاد الأحمر باللون البنفسجي في الفعاليات الرسمية، في إشارة إلى مروج الخزامى في هضاب المملكة. هذه الإشارة البصرية لم تُعرّف فقط بجانب زراعي وجمالي قد يجهله كثيرون حول العالم، بل جاءت ردًّا أنيقًا على اختزال الإعلام الغربي لصورة السعودية في رموز مثل الإبل والخيمة، مقدّمة صورة أكثر تنوّعًا وحيوية للهوية الوطنية. وفي السياق نفسه، برزت مؤخرًا رمزية الريال السعودي بعد تطوير شعاره البصري وإطلاق هويته الجديدة من قِبل البنك المركزي السعودي. فالريال لم يعد مجرد أداة مالية، بل تحوّل إلى رمز سيادي وثقافي يجمع بين أناقة الخط العربي ووضوح التصميم الحديث. هذا التطوير يعكس رؤية المملكة في تقديم صورة اقتصادية أكثر حضورًا وثقة على المستوى الدولي، ويجسّد مبدأ أن الرموز المالية يمكن أن تكون جزءًا من الهوية البصرية الوطنية، تمامًا كرموز التراث والثقافة. فالريال هنا يحمل دلالة على الاستقرار الاقتصادي، والتحوّل التنموي، وتعزيز مكانة السعودية كقوة مالية صاعدة، مما يجعل حضوره البصري امتدادًا طبيعيًا لمفهوم القوّة الناعمة في أبعاده الاقتصادية والثقافية. ولا يمكن لأي رمز ثقافي أن يُفهم بمعزل عن تاريخه، لأن ماضيه بما يحمله من وقائع وصراعات وتحولات دلالية يعيد تشكيل حاضره باستمرار. ويشير عالم الذاكرة الثقافية الألماني يان أسمان (Jan Assmann) إلى مفهوم "الذاكرة الطويلة بوصفه امتدادًا رمزيًا عبر الأجيال. وتظهر هذه الفكرة في رموز دينية وسياسية مثل الصليب والهلال والنجمة السداسية، وكذلك في الأزياء والمفردات البصرية المرتبطة بتاريخ استعماري أو بصراعات اجتماعية، ما يستدعي قراءة دقيقة قبل توظيفها في الحاضر. إنّ التعامل مع الرموز الثقافية بوعي تاريخي وجمالي وأخلاقي يمكّن من توظيفها بوصفها أدوات فاعلة لبناء الهوية وإيصال رواية ثقافية متوازنة ومؤثرة. فالفهم العميق للرموز يحوّلها إلى جسور للتواصل بين الثقافات، ويسهم في تعزيز القوّة الناعمة وصناعة حضور دولي يعكس أصالة المجتمع وحداثته، بينما يؤدي سوء استخدامها إلى تشويه الرسالة وإضعاف أثرها. * عضو هيئة تدريس بكلية اللغات والترجمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية اللون الأخضر والنخلة إرث ثقافي عريق الريال السعودي بهويته الجديدة عام الإبل تأكيد على أهمية الجذور والهوية