حدثني زميل متخصص في الآثار ذات يومٍ عن بعض أشغاله في الحفريات الأثرية، وكان مما روى لي أنه اكتشف نقشاً قديماً يعود إلى العصر العباسي (بحسب تحليله)، وقد حوى هذا النص: «فلانٌ يتشوّق إلى فلانة»، فلم يجذبني شيء في هذا النص سوى أنه نقشٌ قديم، لكنني لما تأملتُ في الأمر مليًّا، وجدتني أمام نصٍّ أدبيٍّ عاطفي، فيه شيء من مشاعر، ولا يخلو من أثرٍ وجداني، ثم لما تفكّرت فيه مرة أخرى رأيت هذا النقش يشير إلى ملامح سيرة ذاتية كان يكتبها أربابها، وإن لم تكن وفقاً لشروط السيرة الذاتية المعروفة اليوم، لكننا مع مثل هذا النقش يمكن أن نعترف بأنه يمثل إرهاصات سيرة ذاتية (نَقْشِيَّة). ولما بحثتُ في نقوش أخرى رأيت حيّزًا أكبر أخذ يمتد معي، فظفرت بنصوص كثيرة ذات طابعٍ سيري، لعل منها مثلاً ما جاء في النقوش السبئية، والثمودية الأقدم التي تعرّف بأصحابها، من قبيل: «نسر بن قرحان»، و»حيان بن قيسة بن سكبت»، و»شقح عبد شويه من آل ألو»، وغيرها. ولئن ساعدتنا (الأركيولوجيا) الثقافية على فهم الأنظمة الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، والفنية، وما يمكن أن تبوح به حضارات المجتمعات القديمة من علم ومعرفة، فإن الذي يهمنا هنا هو محاولة فهم النظام الأدبي لتلك النقوش من زاويتها (الأجناسية)، وليس النظام العاطفي، أو المشاعري فحسب، فكثير من تلك النقوش تفصح عن سَنَنٍ من سنن السيرة الذاتية التي تقوم على (الميثاق التعاقدي) بين الكاتب والقارئ، حيث يحفر الكاتب نقشه على الصخر بغية إيصال رسالته. إننا حين نطالع مثلاً في بعض النقوش الموجودة في المملكة العربية السعودية – القديمة والأقدم – سوف نجد فيها ملامح سيرٍ ذاتية، وقد لفتت نظري بعض النقوش الإسلامية في العهد الأول، وما بعده، حيث لمستُ فيها شيئاً من التعريف بالشخصية، أو بعض صفاتها، ومعلوم أن هذا اللون من التعريف هو سمة غالبة على نصوص السير الذاتية التي تعتمد التعريف أساساً لها، ويمكن أن نشير إلى شيء من تلك النقوش في العصور الإسلامية المتلاحقة، من قبيل: «بسم الله الرحمن الرحيم، أنا حِرز بن حارثة، أعبد الله حيًّا وميتاً، أستغفر الله، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله. وكتبت هذا زمن توفي أهل الأردن». ومن الجميل أن تجد بعض النقوش الإسلامية بمعانيها الدينية العظيمة شاهدة على التعريف بأصحابها، وبصفاتهم، كما ورد في هذا النقش: «يشهد مصاد بن زياد بأن الله أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، كان أول كل شيء، وهو الباقي حتى لا يكون شيء بعده»، فالكاتب هنا يعرّف بنفسه، وبدينه، وبمعتقده الذي يؤمن به، وهذا ميثاق مهم في معرفة الشكل السيرذاتي للنصوص. وقد وجدنا أكثر من نقش بصيغة الغائب، كما هو النقش السابق، ومثله هذا النقش أيضاً الذي ورد بصيغة الغائب، وخُتِم بضمير المتكلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم اغفر لمحمد بن مجاد ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وارحمه، وارحم والديه برحمتك يا الله، وصلى الله على محمد وسلم، حسبي الله». وقد يرد التعريف داخل النقش في مجمله بضمير المتكلم، كما في هذا النص: «أنا عبدالحميد بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، غفر الله لي». وقد يأتي النقش في تعريفه دعاءً، كما في هذين النقشين: «تاب الله على أحمد بن عباس»، و»اللهم اغفر لزياد ولوالديه، ولما ولد».