يوفّر مقرّ العمل نافذةً على النفس البشرية، ومختبراً حيّاً للتعرّف على تنوّع العقول والطباع والثقافات. هناك، تتلاقى الرؤى وتتباين القناعات، ويتجلّى جوهر التعامل الراقي القائم على العمل المؤسسي المحترف، لا على المجاملات الشخصية أو التحزّبات الضيقة. فالإدارة - في جوهرها - ليست سلطةً بقدر ما هي مزيج من المهارة والأخلاق. غير أن التحزّب، في مشهدنا الإداري الحديث، أصبح واقعاً لا يمكن إنكاره. يتسلّل بهدوء إلى أروقة المؤسسات، فيصطبغ به الجو العام، ويزرع بين الزملاء حواجز خفية من النفور وسوء الظن، ليؤدي في نهاية المطاف إلى ضعف الأداء وتراجع الإنتاجية، ويتبعه إرهاق نفسي وانفعالي يستنزف الطاقات ويؤثر على المصلحة العامة. قد يبدو هذا الواقع أزلياً، لكن السؤال الأهم: كيف يتعامل الموظف الواعي مع بيئة كهذه دون أن يفقد حماسه أو نزاهته أو قدرته على العطاء؟ إنّ التكتلات في بيئة العمل تتشكّل غالباً عندما تتقاطع القيم المشتركة بين مجموعة من الأفراد، فيتآلفون ويكتسبون نفوذاً وهيمنة داخل المؤسسة. ومع مرور الوقت، قد تتحوّل هذه التكتلات إلى أدوات خفيّة تُستخدم للإقصاء أو التهميش أو تصفية الحسابات. لكنها، مهما بدت متماسكة، سرعان ما تتفكّك حين تتعارض المصالح، لتترك وراءها ندوباً في نسيج الفريق هنا تتجلّى أهمية الحياد والدبلوماسية كمهارة إنقاذية. فالتعامل مع الجميع على أساس المساحات المشتركة، وتجنّب الاصطدامات غير الضرورية، هما السبيل الأمثل لحماية الذات والمصلحة العامة في آنٍ واحد. العمل المؤسسي الناجح لا يقوم على الولاءات، بل على التعاون والتكامل في تحقيق الأهداف. الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، أن وجود هذه التكتلات أمر طبيعي في كل بيئة بشرية. لكنّ الخطر يكمن في غياب القيادة الواعية القادرة على توجيهها في الاتجاه الصحيح. فحين تكون الإدارة هشّة أو متذبذبة، تتكاثر الأحزاب الصغيرة داخل المؤسسة كما تتكاثر الفطريات في الظل. أما القائد الحقيقي، فهو من يملك بصيرة نافذة، وذكاء عاطفياً يقرأ به النفوس قبل النصوص، فيجمع المختلفين على هدف واحد، ويحوّل التنافس إلى تكامل. إنّ القيادة هنا ليست ترفاً، بل فنّ إدارة التنوّع، وحسن الموازنة بين المصالح، وبناء بيئة عمل عادلة تُنصف الجميع دون محاباة. فالمؤسسات الناجحة هي تلك التي تنشئ مناخاً وظيفياً دافئاً خالياً من الفساد الإداري والسلوكي، وتحارب الاحتراق الوظيفي قبل أن يستفحل. ولعلّ أجمل ما يُقال في هذا السياق ما ذكره بابليوس سيري: "أيّ شخص يمكنه القيادة عندما يكون البحر هادئاً، لكن عند الهيجان تتباين قدرات القادة." أخيرا، من الجميل أن تكون بيئة العمل، دافئة خالية من الفساد الإداري والفساد السلوكي والاحتراق الوظيفي، لأن تفشّي مثل هذه الآفات، مؤشر على مرور المنظمة بأزمة من الممكن أن تؤدي بها إلى التدنّي، وتصيبها بفشلٍ على المدى الطويل.