في عام 1651، تخيل الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الحياة في "حالة الطبيعة"، بأنها عالم دون مؤسسات حاكمة وحواجز. كان هذا العالم كئيبا، غارقا في حالة حرب دائمة جعلت الحياة "بغيضة ووحشية وقصيرة"،حسبما يري المحلل مايكل فورمان. وقال فورمان رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في تقرير نشره المجلس، إن هوبز تصور أن دولة ذات قوة لاحدود لها، هي الوسيلة الوحيدة لترويض حالة الطبيعة هذه. وكان النظام القائم على القواعد بعد الحرب العالمية الثانية، والذي حددته وقادته الولاياتالمتحدة، هو البديل الحديث. وأضاف" نخوض اليوم تجربة كبرى لاختبار تأثير الانحراف عن تلك القواعد. وكما ناقشت باستفاضة مؤخرا، فقد شهدنا بالفعل سقوط نظام التجارة العالمي كما عرفناه. لكن هذا الانحراف عن النظام القائم على القواعد ليس قاصرا على التجارة، ولكنه واضح في استخدام القوة العسكرية أيضا". وتابع أن هناك ثلاثة أمثلة على العمل العسكري الأحادي الجانب خلال الأسبوعين الماضيين تعد إرشادية وتوجيهية بشكل خاص: أولا: في ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء، أطلقت روسيا أكثر من اثنتي عشرة طائرة هجومية مسيرة في اتجاه واحد، ودخلت المجال الجوي البولندي وتحطمت على الأراضي البولندية - وهي الأراضي التي "لزاما علينا "حمايتها بموجب ميثاق حلف شمال الأطلسي(ناتو). ومما لاشك فيه أنه منذ عام 2014 عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم، ومرة أخرى في عام 2022 عندما شنت غزوها الكامل لأوكرانيا، كانت موسكو تختبر عن قصد النظام القائم على القواعد والذي ينص التوجيه الأساسي لهذا النظام، على أنه لا ينبغي على الدول استخدام القوة العسكرية لتغيير الحدود والاستيلاء على الأراضي. وفي الأسبوع الماضي، وللمرة الأولى في تاريخ الحلف، تم الدفع بطائرات مقاتلة تابعة للحلف لإسقاط طائرات معادية فوق مجاله الجوي سواء كان الهجوم متعمدا أو غير متعمد، لم يقدم الروس تفسيرا أو اعتذار؛ وبدلا من ذلك، زعم المسؤولون العسكريون في بيلاروس، بدلا من الروس، أن أنظمة الحرب الإلكترونية الأوكرانية كانت السبب وراء انحراف الطائرات المسيرة عن مسارها. ومهما كان السبب الرئيسي، فإن الصمت الروسي يوضح أنه ما زال لدى الروس الجرأة كالمعتاد لمواصلة اختبار حدود النظام القائم على القواعد. وتابع فورمان " هذا ينقلنا إلى مثالي الثاني: إسرائيل. كان من الملائم بالنسبة للولايات المتحدة أن تعيد إسرائيل تشكيل المشهد الأمني في الشرق الأوسط من خلال تقويض شبكة وكلاء إيران الإقليميين أو إضعافها بشكل كبير، بما في ذلك حماس (بتكلفة بشرية هائلة ومتزايدة)، وحزب الله اللبناني، والحوثيون في اليمن". ثم، بالطبع، تم شن هجمات من جانب إسرائيل (والولاياتالمتحدة) على إيران نفسها، بما في ذلك منشآتها النووية. ومع ذلك، كان الأمر أقل ملاءمة بكثير عندما شنت إسرائيل غارة جوية أحادية الجانب لاغتيال القيادة السياسية لحماس في قطر. ويشير التوبيخ النادر الذي وجهته إدارة ترمب لإسرائيل إلى أن الإدارة ترى المخاطر عندما تتجاهل الدول القواعد أو الاتفاقيات، وتتولى تدبير الأمور بنفسها ، وتتصرف بشكل أحادي على حساب الآخرين. وليست روسيا وإسرائيل هما فقط اللتان تتجاوزان الحدود فيما يتعلق باستخدام القوة. ففي الثاني من سبتمبر الجاري، هاجمت الولاياتالمتحدة قاربا زعم الرئيس دونالد ترمب أنه كان ينقل مخدرات من فنزويلا "متوجها إلى الولاياتالمتحدة"، ما أسفر عن مقتل كل الأشخاص الذين كانوا على متنه وعددهم 11 شخصا. والولاياتالمتحدة ليست في حالة حرب مع فنزويلا؛ ولم يتم التعامل تاريخيا مع تهريب المخدرات بنفس طريقة التعامل مع التهديدات الوشيكة للأمن القومي؛ ولم يقر الكونجرس اتخاذ مثل هذا الإجراء. وفي رسالة إلى الكونجرس، قال ترمب إن الولاياتالمتحدة اضطرت إلى التصرف دفاعا عن النفس لأن الآلاف من الأميركيين يموتون سنويا جراء تعاطي جرعات من المخدرات. ومع ذلك، فإن الدفاع عن النفس يكون منطقيا عندما يكون هناك تهديد وشيك أو ضرر فعلي. وتساءل فورمان قائلا هل يمثل هذا الإجراء بداية لسياسة مستدامة لاستخدام القوة المميتة ضد مهربي المخدرات المُشتبه بهم خارج حدود الولاياتالمتحدة، مما يضفي معنى جديدا على "الحرب على المخدرات"؟ وكيف سترد الولاياتالمتحدة إذا استخدمت روسيا أو الصين أو أي قوة انتهازية أخرى ذريعة مشابهة لضرب سفينةٍ في البحر الأسود أو مضيق تايوان أو أي مكانٍ آخر؟، وفي هذه الحالات لا يمكن بسهولة استبعاد مخاطر الانتقام والتقليد. ويمكن اعتبار كل إجراء من هذه الإجراءات حالة معزولة، ولكن إذا اتخذت دولة واحدة أو دولتان أو ثلاث دول إجراءات نشطة من جانب واحد، فإن هذا يخاطر بإنشاء هيكل سماح حيث يشعر آخرون بعدم وجود حواجز لتقييدهم. وقال فورمان "يمكن أن نشهد تقويضا أوسع نطاقا للنظام القائم على القواعد، بما في ذلك حول العنصر المركزي في النظام الذي أعقب الحرب العالمية الثانية وهو: القيود على استخدام القوة". واستطرد فورمان "وفي الوقت الذي يتأكل فيها التزام الولاياتالمتحدة بدعم النظام الدولي القائم على القواعد، ربما نحرر أنفسنا من قيود القواعد الثقيلة وممارسة القوة بشكل أسرع وأحادي الجانب أكثر من ذي قبل. ولكن الأمر نفسه يمكن أن ينطبق على حلفائنا ومنافسينا وأعدائنا على حد سواء". ويضيف فورمان أنه في حال عدم كبح جماح نظام تحكمه قواعد الغاب، فإنه يمكن أن ينتهي به المطاف بطرح المزيد من المطالب، وليس أقل، بشأن قدر ما من التدخل الأميركي على الأقل، وذلك على ضوء "مصالحنا في مختلف أنحاء العالم" على حد قوله. ويرى المؤرخ روبرت كاجان أن النظام الدولي الليبرالي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي حدده نظام قائم على القواعد، لم يكن حالة الطبيعة للشؤون العالمية بل كان انحرافا وبناء هشا ومصطنعا، تدعمه القوة الأميركية المتعمدة. واختتم فورمان تقريره بالقول "من المؤكد أن الفيلسوف هوبز كان سيوافق على هذا الرأي ويمكن أن تعود قواعد الغاب دائما. وبينما أفهم السبب وراء احتمال إغرائنا بالعيش هناك-لأن الإيجار رخيص للغاية – فإن النظام البيئي ليس ملائما بصفة خاصة. فقط عليك إلقاء نظرة على النصف الأول من القرن العشرين".