في حارتهم القديمة، وحينما كان في الرابعة عشر من العمر كان صادقاً، يجتمع بأبناء الحي ممن كانوا في سنه وأصغر، يلعبون كرة القدمِ وغيرها في الشارع، وكان لطيفاً ومحبوباً ويطلق النكات وينشر البسمة بينهم، وفي يوم من الأيام رأته فتاة جميلة وذكية -اسمها وفاء تصغره بعامٍ واحد- وهم يلعبون، فأُعجبت به، فأخذت تنادي باسمه وتشجعه من وقت لآخر على استحياء حتى انتبه لها، فانسحب من بينهم إلى حيث تجلس عند عتبة باب منزلها المجاور للملعب والمقابل لمنزله، فجلسا يتحدثان ويضحكان ببراءة الطفولة عن دراستهما وأحلامهما وتطلعاتهما، وعن طريقة هروبها مع عائلتها من تلك الحرب المدمرة، وعن ما تعانيه من تشنجات مزمنة إثر إصابتها في رأسها، واستمر على هذا الحال يلعب مع أصحابه قليلاً، ويقضي أغلب وقته جالساً بجانبها. مرت الأيام والشهور والسنون، وتعلق كلٌ منهما بالآخر، وأخذ الحب النقي بينهما يكبر شيئاً فشيئاً، فكان لا بد أن يصارح كلٌ منهما الآخر برغبته في الزواج، حتى جاءت تلك اللحظة التي لم تكن في الحسبان بعد سبعِ سنواتٍ -كانت مليئة بالذكريات الجميلة- حين قررت عائلتها العودة لوطنها؟! تألمت وفاء، وصُعِقَ صادق من الخبر، ولكن لا بد من تقبل الأمر، وسافرت مع أهلها وهي تمنّي النفس برؤية حبيبها مجدداً، ومرت الأيام وقد استقرت في وطنها، وحينما بلغت الخامسة والعشرين من عمرها تزوجت رغماً عنها -وهي التي كان لديها بصيصُ أملٍ للارتباط بحبيب الطفولة وما كان بينهما من نقاء الحب وصدقه- من قريبٍ لها، والذي لم يكمل معها ستة أشهر حتى تم سجنه في قضية أخلاقية استوجبت سجنه لسنواتٍ طويلة، جعلها تفكر جدياً بالطلاق منه، وأخبرت والديها وإخوتها بالأمر، واحترموا رغبتها، وتركوا لها حرية القرار، أما صادق فلم يتزوج من بعدها وانشغل بالتجارة وبعمله. وفي أحد الأيام -وقد بلغ الثانية والثلاثين من عمره- عزم على زيارة خالته بصحبة والدته وإحدى أخواته والتي تسكن في إحدى الدول المجاورة، والتي هي موطن من أحبها، وهو الذي لم ينسَ عنوانها ومازال محتفظاً برقم هاتفها وكل الأماكن والتفاصيل التي حدثته عنها، فأقاموا هناك عدة أيام، وأثناء إقامتهم صارح الشاب أخته بقصته مع وفاء واستحلفها وأخذ عليها عهداً بأن تكتم سره، وطلب منها التواصل على رقم الهاتف، لعل وعسى أن يعثر عليها مرةً أخرى، وبالفعل تم له ذلك، وكان رقم الهاتف لم يتغير، فصارحتها وأخبرتها بكل شيء، وكانت الصدمة للجميع، فغرق صادق في دموعه من هول الموقف، وطارت وفاء من الفرحة، وهي تكفكف دموعها ولم تصدق ما تسمع، وأيقنت بأن أمنياتها ودعواتها ربما تتحقق بعد كل هذه السنين الطويلة، واتفق مع أخته ليلتقوا بها عند أحد الشواطئ، وتم لهم ذلك، وأحضرت وفاء بمعيتها أختها التي صارحتها بالأمر كذلك، واتفقا على الزواج. رجع صادق ووالدته وأخته إلى بلدهم، وهو لا يكاد تصديق ما حصل وكأنه في حلم! وفي يوم من الأيام ودون سابق إنذار خرج زوج وفاء من السجن، حيث تم تقليص مدة سجنه وأفرجوا عنه، وتفاجأت بالأمر وسارعت في إنهاء العلاقة والطلاق رغم تودد زوجها لها بالرجوع، ورغم المحاولات الجادة من أهلها والوقوف في وجهها لثنيها عن قرارها، ولكن هيهات هيهات! فقد عاد حب الطفولة من جديد، وكأن الأمر معجزة! اتفقت وفاء مع صادق ليتقدم لخطبتها، فرحب به أهلها واتفق معهم على موعد الزواج، فحددوه، وأثناء ذلك حدث حادث سيارة شنيع أودى بحياة والدتها وأحد إخوتها، وأما والدها فقد أصيب بشلل جعله أسيراً للكرسي طوال حياته، فحزنت وفاء بسبب ذلك حزناً عميقاً طال وقته، فتأجل زواجها إلى أجلٍ غير محدد، وحينما هدأت، عاد صادق مجدداً واتفقا على موعد الزواج، فتزوج صادق وفاء وعاش معها أياماً هي من أجمل أيام العاشقين الأوفياء الذين لم يتلوث حبهم بالحرام وعلائق الدنيا وسفاسف الأمور، ولكن القدر كان له رأي آخر، فقد انتقلت وفاء إلى جوار ربها بعد شهرين من زواجها بمن أحبها وأحبته بعد معاناتها مع مرضها الذي كان يعاودها بين الحين والآخر! وهكذا أسدِل الستار عن قصة من قصص الوفاء.