محطة (وتر لوو) بلندن كعادتها اليوميةِ مترعةٌ بأصواتِ المسافرينَ يقف كلُ واحدٍ منهم محدقاً عينيه إلى الأعلى حيث شاشات الرحلات المتوهجة بلونها البرتقالي.. صافرات الموظفين تتراشق من كل اتجاه في فترات متقاربة محدثةً صدى في تلك الصالة المهيبة بضخامتها إيذاناً بتحرك القطارات التي حان موعدها.. فبين واقف ومسرع ومهرول وشارب لقهوته وبين من هو نازل في المحطة وطالع منها.. وما إن اقترب موعد رحلتي حتى امتطيت قطاري باحثاً عن كرسيٍّ مناسب، وبعد التفقد وجدت المقعد الملائم وكان على النافذة، وكنت أرقب بكل شوق اندلاف القطار نحو المدينة التي أريدها لأسمع صوت نغم سكة الحديد والعجلات تمر عليها.. طخ طخ طخ.. في كل نقطة ذكرى منذ أن تخرج العربات إلى الهواء.. فترى تلك الأجدر الشاهقة من المباني ذات الغرف العديدة البعيدة وقد تكسّر ضوء الشمس الخفيف على جنباتها الحمراء.. فكل غرفة تحكي قصة وكل مبنى يحكي رواية.. يمر القطار عبر تلك المدن والقرى وينادي سائق القطار عند الاقتراب من كل محطة ليتأهب مريدوها بالنزول فينزل أولئك ويركب آخرون، ومن تلك المحطاتClapham Junction ، Woking، Guilford، Witley" ، Fareham". فكل صوت يجذب ذكرى، ويجدد حياة، تجلب خيوط الذاكرة شخوصاً، وأوقاتاً، ومواقف، فتنتشي الروح وتعتبر بسرعة الوقت وأن الدنيا فعلاً مصيرها الزوال ولا تستحق بعض العناء، وتجد عبر الطريق أبنية لم يعتد بصرك على رؤيتها سابقاً وهذا دليل على أن الزمن لا يقف حيث كان بل يتطور ويتجدد. ثم تمر عربة داخل القطار تبيع شاي وقهوة ومأكولات، وخلال انغماسك في الذاكرة التي أتيت من أجل الوقوف عليها وإذا بقائد القطار ينادي بوصوله إلى الوجهة التي تريد. وعند النزول من القطار يتكثف الجنس البشري عند المحطة يريدون مأواهم ليبيتوا، وعند الضحى وصلت إلى مدرسة الإدارة التي درست بها منذ أربعة عشر عاماً فإذا هي خاوية على عروشها فلم أجد موظفاً أو طالباً أو دكتوراً، وبعد برهةٍ قصير وإذا بطالب الدكتوراه يدخل فبدأ النقاش وتبين لي أنه من أصل مصري وذكر لي أن المدرسة تحت الصيانة وأن التدريس يقام في مبنى آخر وأشار بيده، فقلت دعنا نصعد إلى الدور الثاني لأنني أتذكر أن فصول الدراسة هناك فقال: تحت الترميم، فصممت على الوقوف عليها رغم الصيانة، وصعدتُ وصعد معي هذا الطالب، وما إن انفتح الباب وإذا بظلام الممرات والقاعات إلاّ أن وميض الذاكرة أنارها بقدر استطاعته.. فتذكرت البيت الذي يقول: الله يا عصر جرى لام تينه .. ماعاد يرجع كود الأموات يحييون إن في العودة على الأماكن التي تحمل الذكريات لفوائد جمّة. هذا المقال يعتبر حالة ممكن لعلماء النفس أن يدرجوها في دراساتهم. وخير ما أختم به حديثي هو الصلاة على نبينا محمد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد بن عبدالله صلاة دائمة ما تعاقب الليل والنهار وعدد ما حملت بورودها الأشجار.