منذ تأسيسها في فبراير 2020، شكّلت هيئة المسرح والفنون الأدائية علامة فارقة في مشهد الثقافة السعودية، لم تكن مجرّد هيكل تنظيمي، بل انطلقت بوصفها قاطرة للتجديد الفني، ومكوّنًا حيويًا من استراتيجية التحول الوطني الطموح ضمن مستهدفات رؤية المملكة 2030. وجاء إنشاؤها ضمن سلسلة الهيئات الثقافية التي أطلقتها وزارة الثقافة لتكون الذراع التنفيذي المتخصص في تنمية الفنون الأدائية بمختلف أنماطها، من المسرح والرقص إلى الأوبرا والعروض المعاصرة، مؤكدة التزام المملكة بأن تكون مركزًا للإبداع على المستويين الإقليمي والدولي. وانطلقت الهيئة منذ بدايتها بخطى واثقة نحو تأسيس بنية متكاملة للقطاع، عبر استراتيجيات مدروسة تستهدف بناء القدرات وتطوير المواهب. فقد أسهمت برامج مثل: "المحترف المسرحي" وورش العمل التدريبية في تمكين جيل جديد من المبدعين، فيما قدّم برنامج "ستار" دعمًا نوعيًا للفرق المسرحية وأندية الهواة والشركات الناشئة، محفزًا إياها على إيجاد نماذج استدامة ذاتية، تعزز من قدرة القطاع على الاستمرار والتأثير بعيدًا عن الدعم المرحلي. ولم يقتصر دور الهيئة على تمكين الأفراد، بل شمل البنية التحتية أيضًا، من خلال تطوير المسارح وتجهيز قاعات العروض في مختلف مناطق المملكة بأحدث التقنيات، بما يتواكب مع الحراك الفني المتصاعد. كما حرصت على توسيع قاعدة الجمهور ورفع مستوى التفاعل المجتمعي عبر فعاليات متنوعة وعروض جاذبة تُسهم في إثراء الذائقة العامة. وتُعد مبادرات الهيئة النوعية محطات مفصلية في مسيرة الفنون الأدائية، أبرزها مهرجان الرياض للمسرح الذي أصبح منصة وطنية لاكتشاف الطاقات الإبداعية واستعراض الإنتاجات المتميزة، إلى جانب "حاضنة المسرح والفنون الأدائية" التي توفر بيئة نمو للمشاريع الناشئة. كما لم تغفل الهيئة أهمية التعاون مع المؤسسات التعليمية لغرس حب المسرح لدى الأجيال الجديدة، وتعزيز ثقافة الفنون في النشء ضمن سياق تربوي شامل. ولضمان وصول الفن إلى كافة أنحاء المملكة، أُطلقت "جولة المسرح" التي تحمل العروض إلى مختلف المناطق، في حين وفّرت المنصات الرقمية مثل "أبدع" حلولاً مرنة لتيسير التراخيص والإجراءات، ما ساعد على تسهيل الانخراط في العمل الفني. وتخطط الهيئة لإنشاء أكاديمية متخصصة لتأهيل كوادر فنية ونقدية تسهم في الارتقاء بالمشهد من مختلف جوانبه، فيما جاءت مبادرات مثل: "يبرق" و"صناع المسرح" لتعزيز قدرات الشباب وتوفير أدوات احترافية تضمن استدامة النمو في القطاع. وقد بدأت هذه الجهود تؤتي أُكلها بوضوح، حيث شهدت الساحة الفنية السعودية ازدهارًا غير مسبوق في عدد العروض وجودتها، إلى جانب تزايد الإقبال الجماهيري وتحسن مستويات الإنتاج، ما حوّل المسرح من نشاط محدود إلى صناعة متكاملة تخدم الهوية الوطنية وتفتح أفقًا رحبًا للتعبير الإبداعي. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة اليوم لتوسيع دائرة التأثير عبر تكامل مؤسسي أعمق، لا سيما من خلال تفعيل المسارح المتوفرة في المدارس والجامعات والمكتبات العامة، واستثمارها بشكل ممنهج تحت إشراف الهيئة. يتطلب ذلك شراكة استراتيجية مع وزارة التعليم، تتيح توحيد المعايير الفنية وتفعيل آليات حجز موحدة، ما يُسهّل على الفرق والطلاب استخدام هذه المنشآت، ويُوفر بيئة مثالية لاكتشاف المواهب المبكرة، ويعزز من حضور الفنون الأدائية في عمق النسيج المجتمعي. وفي ظل هذه المبادرات المؤثرة، يظل التعويل كبيرًا على استمرارية الزخم النوعي، وتطوير البرامج الداعمة مثل "ستار"، بما يُمكن الفرق المسرحية من ترسيخ نماذج استدامة تواكب الطموحات الوطنية، وترتقي بالمسرح السعودي نحو مصاف التأثير العالمي. فليست الهيئة مجرّد جهة داعمة، بل هي عقل مدبر وقائد لمسيرة فنية متجددة، تُسهم بعمق في تحقيق رؤية المملكة 2030، وتؤسس لمستقبل ثقافي زاخر يرتكز على الإبداع والابتكار.