في عالم تتسابق فيه الأمم لتوثيق ذاكرتها، حيث لم تعد الثقافة تكتفي بأن تروى، بل باتت مطالبة بأن تحفظ وتعرض وتشارك رقمياً، ومن هذا المنطلق تمضي المملكة في مشروع ثقافي واسع تتقاطع فيه الهوية مع التقنية، وتعاد صياغة التراث والموروث الشعبي في فضاءات رقمية، تتيح للأجيال الجديدة أن تتعرف عليه ويكون جسراً ثقافياً يراه العالم من زوايا مختلفة. وبلاشك أن الرقمنة الثقافية هنا. تمثل ضرورة وطنية، تضمن استمرارية الإرث، وتمنحه حياة جديدة تتجاوز حدود المكان والزمان، ولحظة تحول تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وتاريخه، لذلك تبّرَز على الساحة الثقافية عدة مبادرات، من بينها المشاريع الرقمية والتي توثق الروايات الشفوية لكبار السن، وتحول الحكايات الشعبية إلى تسجيلات صوتية ومرئية، إلى جانب رقمنة الأرشيفات الوطنية والصور التاريخية، والتي باتت متاحة للجمهور ضمن بوابات رقمية سهلة الاستخدام. وكون أن الرقمنة الثقافية في المملكة تعني أن الكتب القديمة لا تبقى حبيسة الرفوف، بل تتحول إلى كتب إلكترونية يمكن تصفحها من أي مكان في العالم، لذا كانت من أبرز ملامح هذه الرقمنة، التوسع في إنشاء أرشيفات رقمية للصور والمخطوطات، وتوثيق الفنون الشعبية، مثل «الألعاب الشعبية/الرقصات» والأزياء، والأغاني القديمة وتاريخها، بصيغ تفاعلية تحفظ تفاصيلها وتنقلها بدقة عالية، وتسعى المتاحف هي الأخرى إلى الدخول في العالم الرقمي، حيث أطلقت معارض افتراضية تتيح للزائرين استكشاف المقتنيات الثقافية والتاريخية من أي مكان في العالم، ما يسهم في رفع مستوى الوعي بالتراث الوطني وتعزيز السياحة الثقافية الرقمية، وامتد هذا التوجه إلى الفنون الحديثة، حيث أصبحت المسابقات الفنية والتصميمية تركز على الفنون الرقمية، مما فتح المجال أمام المواهب السعودية الشابة للتعبير عن هويتها بأساليب معاصرة، كما تسهم الهيئات الثقافية التابعة لوزارة الثقافة، مثل هيئة المتاحف وهيئة التراث وهيئة الأفلام، في تطوير بنية رقمية فعالة، وتسعى إلى إنشاء محتوى ثقافي افتراضي، كذلك توثيق الروايات الشفوية، وتحويل الفنون البصرية والسينما إلى تجارب رقمية يمكن الوصول إليها عبر المواقع الإنترنت، وتعد الرقمنة الثقافية إحدى أبرز أدوات القوة الناعمة التي تستخدمها المملكة لنقل ثقافتها إلى العالم، كما أنها تسهم في تنويع الاقتصاد من خلال الصناعات الإبداعية، ودعم الممارسين الثقافيين، وخلق فرص عمل جديدة في مجالات التقنية الثقافية والفن الرقمي، في ظل هذا التوجه الطموح تواصل المملكة بناء مستقبل ثقافي يرتكز على أصالة الموروث وتقدم التقنية، مما يجعل الرقمنة ركيزة استراتيجية للحفاظ على الهوية ونشرها عالمياً.