انفضّ السامر وانتهت فترة معرض الكتاب، الذي احتضنته جامعة الملك سعود بالرياض قبل أيام، وبين لحظةٍ وأخرى، كانت تداهمني علامات استفهامٍ وأسئلةٍ متنوعة، بعضها يبحث عن إجابةٍ، والبعض منها يحضر في خطرات البال، ولحظات التأمل، ولو من باب الفضول والرغبة في البقاء على قيد السؤال.. أحدثكم وقد كنت صاحب تجربة (نشرٍ، وعرض) في هذه التظاهرة الفكرية الموسميّة. أما أكثر تلك الأسئلة إلحاحًا فقد كان عن موقع الكتاب الورقيّ من اهتمام الناس في واقعنا المعاش؟ فحواه حول مدى إمكانيّة اعتبار الكثافة الشرائية مؤشراً على حضور الكتاب في اهتمامات، وعقل المتلقي في هذا الزمن؟ وهل يستطيع الكتاب بأوراقه الناعمة، وأحباره الأنيقة، أن يخطف سويعاتٍ، أو لحظاتٍ من براثن عقلٍ استهوته التحولات الرقمية المذهلة، والمتجددة، بكل تطبيقات الإغراء، والإغواء، والعروض، والخدمات؟ لقد أحكمت التقنية حلقاتها بالفعل وأضحى الكتاب هو الآخر على هيئة نسخة رقميّة تنتشر على ظهر موجة الحياة الرقمية المعاصرة! وأصبح الكتاب الورقيّ وكأنّه مجرد حملٍ ثقيل آيلٍ للسقوط أو بانتظار رميهِ على رفوف الزمن. وكأنما يتوسّل لحظاتٍ مارقةٍ في عجلة هذه الحياة المهرولة، لحظاتٌ ليس إلا؛ بل هي طويلةٌ جدًا، بالنظر إلى الواقع المعاش، وبالنظر إلى حالة الارتهان الواضحة من الناس للأجهزة الإلكترونية، في خضمّ تسارع حياتنا اليومية، منذ لحظة الاستيقاظ، إلى لحظة الخلود للنوم مرّة أخرى. لنراقب ولو من باب التأمل هذه القدرة الهائلة التي تتمتع بها هذه الأجهزة الذكية، وهي تستدرجُ الإنسانَ في هذا الزمن إلى حيث عالمها الافتراضي اللانهائي، وإلى عوالم شبكاتها التواصلية الاجتماعية، فأين هي تلك السويعات التي كان الكتاب الورقيّ يملأ فيها القلب، والعقل قبل ملء البصر؟ وحتى حين رأفتْ هذه الثورة التقنية بالكتاب الورقيّ، إلا أنه يضلّ شاحبَ الوجه! كأنه جثةً هامدةً نُزعتْ روحها! فيتعب فيه النظر، ويتجرّعه القارئ ولا يكاد يسيغه! نحن إذاً في ثنائية غير متكافئة على الإطلاق!! طرفاها يعيشان على طرفي نقيض! هذه الثنائية تتمثّل في الجهاز الرقميّ، أيّاً كان نوعه من جهة، والكتاب الورقيّ من الجهة الأخرى!! ففي الوقت الذي يتوارى الكتابُ الورقيّ فيه عن الأعين، والأضواء، نجد الجهاز الرقميّ يتزايد في تقنياته ووسائل جذبه وحضوره وانتشاره بين كل الطبقات والفئات المجتمعية، ونجده يتجدد في ابتكاراته وفنونه، وفي الوقت الذي يحاول الكتاب الورقيّ أن يثبِّت دفتيه بين يدي القارئ، إذا بالجهاز التقنيّ ينتزع وبكل جاذبيةٍ وشوق داخليٍّ عقلَ القارىءِ، ووقتَ الإنسانِ بشكلٍ عام ثم يُحلِّقُ به في سماواتٍ افتراضية متراميةٍ، لا يكاد يفيق من عالمها. إنها بالفعل مقارنةٌ ظالمة تلك التي نضع فيها الكتابَ الرقميَّ في وقتنا الحاضر بموازنةٍ مع الجهاز الرقميِّ الآسر إنها تشبه من يضع الحياة في موازنة الموت، أو الحركة في مقابل السكون، أو الحديث المثير الجذّاب، في مقابل الصمت الأليم. ويبقى السؤال على الرغم من تدفّق المطابع الورقيّة، وعلى الرغم من تنقل معارض الكتاب وترحاله عبر التراجم، وتظاهراته المكتظة بالزوار والمشترين عبر المدن، والعواصم، يبقى السؤال، وتبقى معه إجابته الحائرة وهما يراقبان المشهد، تماماً كما أجول بنظري الآن في رفوف مكتبتي ذات الكتب الورقيّة العريقة.