يتحدثون عن غياب الشعر فينا، يحيلوننا بين حين وآخر إلى التاريخ كلما تذاكرنا الشعر، واتكأنا عليه في تعريف ثقافتنا العربية بكل تحوّلاتها اللغوية والسياسية والحضارية.. نعم، هم أولئك الذين كلما تورّطوا بالكلام نادوا على شاعر هناك وراء التاريخ، وآخر من بين ركام المخطوطات، وثالث من أقاصي الحضارات القديمة..! لهذا يحضر الشعر في كلامهم وتفوح منه رائحة الخلود، ربما لأنهم حتى وهم يحاولون تغيير خارطة الذاكرة اللغوية فينا لصالح فنون أخرى نسوا أو تناسوا أنها كلها تقريباً تناسلت من الشعر وتربّت في كنفه ورعايته.. فالرواية التي تصدّرت المشهد الإبداعي لدينا خلال العقود القليلة الماضية تربّت هي الأخرى في كنف الشعر وترعرعت في جغرافيته الطويلة، ولعلّ الاطلاع على بعض الكتب التراثية القديمة كالرسائل الفنية التي كتبها أجدادنا من مثل ابن شهيد الأندلسي أو ابن الطفيل أو حتى الجاحظ إنما كانت عبارة عن روايات مبكرة جداً من وجهة نظري الخاصة، ولم تكن ذات حضور كبير لولا رعاية الشعر لها بصورة أو بأخرى ولو حتى ضمن المناخ العام لحضورها فينا. وحتى عندما انصرف الشعر إلى الصنعة والتكلف في عصر ما بعد الحضارة العباسية أو كما يسمى «عصر الدول المتتابعة»، وفقد بريقه القديم لصالح الصنعة الجمالية، تحمل العصر حضارياً وِزر هذا الغياب للشعر وأطلق عليه «عصر الانحطاط» عند كثير من النقاد على الرغم من ازدهار فنون كثيرة فيه كالمعاجم أو المقامات وغيرها من الفنون التي ازدهرت في ذلك العصر. إذًا كل هذا الحديث السابق يمكن أخذه ورده أو الجدال فيه لكن ما لا يمكن النقاش حوله هو تلك الشعرية التي تحرّكنا على مستوى التصور والتخييل أو قراءة الوجود من حولنا.. أو حتى رصد التاريخ فلا يمكن لأحدنا أن يمرّ على مسمى (الربيع العربي) مثلاً دون أن يستشعر البعد الشعري في هذا المسمى.. رغم أن هذا الربيع التفاؤلي مرّ عليه أكثر من عقد من الزمان بأشجارٍ محروقة وحقول مدمّرة وينابيع جافة، ولم تكن وروده حمراء إلا لأنها مصبوغة بدم الشعوب المغلوبة على حزنها فيه، حتى حصاده في بعض الدول التي خُيِّل إلينا أنها تجاوزته جاءت ثماره فرقة وشقاقاً وأزماتٍ لا تنتهي.. ومع هذا اخترنا بعداً شعرياً لها، فاستبدلنا مفردة الربيع بالخريف، وفي كليهما تحضر اللغة الشعرية المتجذّرة، وتحيا الأحداث على تصاريفها تحت تخدير الشاعرية فينا. هو الشعر إذًا الذي يبقى لتنمو اللغة.. يبقى ليرحل الإنسان فينا إلى جوهره المتوهج والحارق كي تتبخّر روحه عبقاً إنسانياً خالداً.. يبقى الشعر ليدلنا على جماليات الوجود فلا نستكشف من خلالها إلا دواخلنا ولا نكتب به إلا كل تاريخنا. فاصلة: إنها سيرة الحزنِ في أول الشعرِ أو أول العمرِ لا فرق ما بيننا حين قال أبونا الكبير: (قفا نبك).. حتى بكينا طويلاً إلى آخر الأغنيات..!