أكملتُ أكثر من ربع قرنٍ مع الكتابة أنّى وجدتها ظفرتُ بها.. في صحافة أو فوق لوحة مضيئة.. وبعد كل حرف أتساءل عن جدوى هذا البوح المختبئ في جنح الكلام، وعلى الرغم من أنني آمنت منذ نعومة حروفي بأن الشعر أولى بالاتباع لهذه الروح التي تود أن تقول دائما، تمامًا كما آمنت من أن الشاعر ليس زعيمكم ولا خطيبكم ولا واعظكم ولا مرشدكم.. إنه هكذا بينكم يدهس الظلال مثلكم حينما تزدحم الشمس في الشوارع، يصدقكم حين يكذب، ويكذب كي يصدقكم هكذا.. هكذا غالبا ما يكون حالة من البحث عن الحقيقة التي تندغم فيها الذات، وتمتزج بها الرؤيا، ويعانقها التذكّر، كما آمنت بأن قصائده المترامية الأطياف ليست إلا محاولة منه لإعادة صياغة الوجود جماليّا، مهما تعاظم القبح، وتوالت الخيبات. فما لا يمكن النقاش حوله هو تلك الشعرية التي تحرّكنا على مستوى التصور والتخييل أو قراءة الوجود من حولنا.. أو حتى رصد التاريخ. اليوم مثلا، هل لأحدنا أن يمرّ على مسمى (الربيع العربي) دون أن يستشعر البعد الشعري في هذا المسمى.. رغم أن هذا الربيع التفاؤلي مرت عليه سنوات طويلة بأشجارٍ محروقة وحقول مدمّرة وينابيع جافة، ولم تكن وروده حمراء إلا لأنها مصبوغة بدم الشعوب المغلوبة على حزنها فيه، حتى حصاده في بعض الدول التي خُيِّل إلينا أنها تجاوزته جاءت ثماره فرقة وشقاقا وأزماتٍ لا تنتهي.. ومع هذا ما زلنا نردد هذا المسمى (الربيع العربي) تحت تخدير الشاعرية فينا. إنه الشعر الذي يبقى لتنمو اللغة.. يبقى ليرحل الإنسان فينا إلى جوهره المتوهج والحارق كي تتبخّر روحه عبقا إنسانيا خالدا.. يبقى الشعر ليدلَّنا على جماليات الوجود، فلا نستكشف من خلالها إلا دواخلنا، ولا نكتب به إلا كل تاريخنا... : فاصلة لذاكرةِ الريحِ .. للبدويِّ الذي يخلطُ الحبرَ بالماءِ للمهدرينَ دمَ الوقت .. هذا زمانُ الكتابةْ ..! من أوَّلِ السطرِ .. حتى نعاسِ الأناملِ .. من آخر الشطرِ .. حتى حُداءِ القوافلِ.. أستلهمُ الدربَ نحوَ فمي.. وأحملُ مسْتوْدعًا للكلامِ .. على خطوتي تعشبُ الأرضُ حرفًا وفوق لهاتي تندّتْ سحابة!