كأنما هذا اليوم - 18 ديسمبر - هذا العام ليس احتفالًا سنويًّا عاديًّا ب»اليوم العالمي للُّغة العربية» كما أعلنته منظمة اليونسكو في جمعيتها العامة (18 ديسمبر 1973)، بل هو هذا العام عيد عالمي للعربية، لغتنا الأُمّ، بعدما منظمة اليونسكو (التابعة للأمم المتحدة) أعلنت، الثلثاء هذا الأسبوع، عن إدراج الخط العربي ضمن قائمتها للتراث غير المادي، واصفةً إياه بأنه «تعبير عن التناسق والجمال». ويأتي هذا الإعلان المُشرق بعد جهود أكاديمية وعلمية بقيادة المملكة العربية السعودية شاركت فيها 16 دولة عربية. والتراث غير المادي بدأ التعامل به منذ أعلنته اليونسكو في اتفاقية 2003 ووقعت عليها الدول الأعضاء في المنظمة. الخط ومدلوله ماذا يعني هذا الأمر؟ وما أهميته؟ حدَّدت منظمة اليونسكو «التراث العالمي غير المادي»، وتسمِّيه أيضًا «التراث الحي»، بأنه باقة معارف وتقاليد ومهارات تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي غير المادي المتوارث جيلًا عن جيل. هذا يعني أن يدخل الخط العربي، بأناقته وجماله وزخارفه وتزويقاته الجميلة، إلى حضارات العالم التي تنتهج اليونسكو نشْرها والحفاظ على قيمها في جميع البلدان. من زهوة العيد العالمي أيضًا، أن يأتي هذا الحدث تتويجًا آخر لما كانت المملكة أعلنته العام الماضي 2020 «عام الخط العربي» كما أعلنها الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، وشارك فيه الأفراد وأسهمت المؤسسات العامة والخاصة في كافة المناطق والمدن والمحافظات في المملكة. وفي خطوة تاريخية أخرى، بعدما تمت تسمية «دار القلم للخط العربي» في المدينةالمنورة باسم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، باتت الدار منصة عالمية للخط والخطاطين من مختلف دول العالم، لكون المدينةالمنورة محطة رئيسة في تاريخ الخط العربي. الدور الرائد كيف يكون للخط العربي هذا الدور لإِشعاعه أن يكون تراثًا عالميًّا؟ تعتمد اليونسكو التراث الثقافي غير المادي عاملًا أساسيًّا للحفاظ على التنوُّع الثقافي في مواجهة العولمة. ففهمُ التراث الثقافي غير المادي يساعد الجماعات المختلفة على الحوار بين الثقافات، ويشجع على الاحترام المتبادل لطريقة عيش الآخر. وليست أهميته في مجرَّد «مظهره» الثقافي بل في معارف ومهارات غنية تنتقل عبر الأجيال. والخط العربي إرث توارثناه من سحيق التاريخ العربي، وبرع فيه خطاطون ونُسَّاخ كان خطُّهم البارع الجميل يطرّز مضمون نصوصه بما يجعلها سائغةً للقراءة وللحفظ ولاكتنازها إرثًا من أثمن ما يعطانا أن نكتنز. من هنا ضرورة المحافظة على التراث غير المادي بين الشعوب، وضرورة تفعيله وحمايته من مخاطر وتهديدات ناجمة عن أنشطة تؤذيه قد تؤدي إلى تجميده، كفقدان صيغة التنوع فيه، واستحداث صيغ مخالفة، وانتفاء فرص الإبداع والتغيير. صون التراث في منطق اليونسكو عن أهداف تدابير صون التراث الثقافي غير المادي أنه من أشكال التراث الحي: ضمان إبداعه من جديد بصورة مستمرة ونقله إلى الأجيال الصاعدة. فهو تراث جامع أشكالَ التعبير المنبثقة عن التراث الثقافي العام، القريبة من أشكال تعبير أخرى، وفي جميعها تراث ثقافي غير مادي توارثته الأجيال وطوَّرته استجابةً لبيئاتها، وتسهم في إعطائه إحساسًا بالهوية والاستمرارية، حلقةَ وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. والتراث الثقافي غير المادي لا يثير تساؤلات عن انتماء بعض الممارسات لأَيّ ثقافة، بل يسهم في تحقيق التماسك الاجتماعي، محفِّزًا الإحساس بمسؤوليةٍ تقوّي شعور الفرد بالانتماء إلى جماعة واحدة أو جماعات مختلفة وتاليًا إلى المجتمع ككل. التناسق والجمال ويلفت في إعلان اليونسكو وصف الخط العربي بأنه «تعبير عن التناسق والجمال». ولعله من أجمل الخطوط في جميع اللغات، بشاعرية تداويره وزخرفاته وخصوصًا في اتساع الإمكانات الفنية لدى كتابته في أنواع خطوط متعددة تنبثق منها روح كاتبها أو خطاطها، كأنما فيها نفسيته وهو يكتب أو يزخرف أو يخط، تاركًا فيه بصمة تراثية لافتة. وتأتي السعودية رائدة أخرى في هذا العيد الجديد، بعدما سجلت لها اليونسكو خمسة مواقع تراثية في قائمة «التراث العالمي»: الحِجر، حي الطريف (في الدرعية التاريخية)، جدة التاريخية، واحة الأحساء، مواقع الفنون الصخرية في منطقة حائل. الحفاظ على الإرث ومهما تطورت التكنولوجيا وأصدرت حروفًا صناعية للكتابة، تبقى كتابة الخط العربي ضرورة حضارية للأجيال الجديدة كي لا تنفصل عن كتابة الخط التي تجعلها أقرب إلى جذور التراث، وترسخ فيها الانتماء، والتراثُ انتماء، والانتماءُ أصالة، والأصالةُ العربية تبدأ من لغتننا التي حباها الله تعالى كتابه كي يبقى نور هداية سلوكًا فرديًّا وتعامُلًا مجتمعيًّا كلماتٍ وحروفًا وأفكارًا تقتبس ذاك النور جيلًا بعد جيل. هنري زغيب