جال بهواجسه وحيداً بين اليقظة والحلم، حاملاً وحشة روحه وإحساساً بالذنب بلغة العواطف، وشعوراً بالنقص والاغتراب، وحنيناً إلى طبيعة إنسانية أكثر براءة وحرية، لاكتشاف هويته في عالم كان يبدو رافضاً له، قائلاً: «ما اطمأنّ إليه قلبي دون تردد اعتبرته حقيقة بديهية». إنه زعيم النزعة الطبيعية بلا منازع، وفيلسوف عصره، وناقدُ اجتماعي، ومحترفُ موسيقي من أبرز عمالقة عصر التنوير وأكثرهم تاثيراً حتى زماننا الحاضر. هو جان جاك روسو، ولد في جنيف بسويسرا عام 1712م لأسرة فرنسية، تقاذفته صروف الدهر بين اليُتم والضياع والتجربة والفشل. شكلت أفكاره وآراءه جدلاً ونقاشاً؛ وهزت المجتمع الأوروبي وألهمت الثورة الفرنسية، وصنعت الحداثة في الفكر الأدبي برغم المعارضين والناقدين له. اعتقدَ أن التعايش بين البشر في علاقات المساواة والحرية أمر ممكن، إلّا أنه في قرارة نفسه نزاع إلى التشاؤم من أن الإنسانية سوف تفلت ديستوبيا (واقع مرير) من الاغتراب والقمع وانعدام الحرية فيقول: «الإنسان صالح بطبيعته محب للعدل والنظام، فأفسده المجتمع وجعله يائساً». أحدث كتابه (هواجس المتنزه المنفرد بنفسه) تأثيرات ملحوظة على روائع الأدب من حيث الزمن والصدق مع النفس والتطهير الكتابي، كتبه جاك روسو ما بين عامي (1776م - 1778م)، ولم ينشر إلا بعد وفاته بأربع سنوات. وترجمه إلى العربية بولس غانم، وهو بمثابة السيرة الذاتية لروسو؛ كتبه له وحده، أملاً أن تعزيه قراءة مخطوطته في شيخوخته وتمكنه من العيش بزخم مع نفسه المعذّبة كأنها صديق يرافقه في وحدته. يقول عنه خليل سركس: « لقد تقلب روسو على واقع الأمور تقلبه على الأخيلة، فكان بين هذه وتلك في فوضى سيرة مصطرعة القوى، متنازعة الرغبات». ويعد كتابه من روائع كتب السير بثّ من خلاله لواعج قلبه ونداءات عقله، متسائلاً: ماذا فعلت على هذه الأرض؟ إن أحلام اليقظة للمتجول، وأزمة الخوف والحذر مما كان يعانيه روسو من الاضطهاد من قبل المجتمع، جعلته يهرب إلى الوحشة والوحدة، وإلى النزهات في أماكن لا يرتادها الناس، وكان يتلذذ بالنزهات ويتناغم مع غزارة مخيلته، وتدفق رعشاته، ما بين الاستمتاع بعالم الطبيعة والنباتات، ومصادقة الحشائش والتغزل بها، والتلهي بالموسيقى. يصر روسو على أن الإنسان المُسمّى متحضراً، يلبس أقنعة لا تعبر عن دواخله، فيظهر بمظهر الجذاب والمهذب، لكنه مليء في دواخله بالخوف والريبة والبغض والغدر والاستهتار واللامبالاة. يُعد كتاب الهواجس نتّاج ما فُطر عليه روسو من شدة الحساسية، وقوة الذاتية، التي ألهبت أسلوبه؛ فعند قراءته تغدو السطور نابضة بالحياة، مناسبة لمشاركة إنسان عاش إنسانيته أديباً كبيراً، عميق الفكر، ثائر الشعور وقريباً من كل قلب. يقول في الجولة الثالثة من كتابه الهواجس: «هجرت الحياة الدنيا بمفاتنها، وزهدت كل زخرف، وخير من هذا كله، نزعت من قلبي كل اشتهاء لجمع المال، وكل مطمع في كل ما له قيمة، وانصرفت إلى نسخ الموسيقى، نظير أجر معين للصفحة الواحدة، وهو عمل كنت شديد الميل إليه دائماً». تُوفِّيَ «روسو» عامَ 1778م، فقد عاش وتعذب واحترق من أجل أن تبصر البشرية طريقها نحو الحرية والمساواة والسعادة. قررت الحكومة الفرنسية نقل رفاته في احتفال كبير ألى (البانثيون) مقبرة العظماء في باريس.