فلسفة تطوير الذات تبدو وكأنها جزء من تجربة خاصة؛ إلا أنها تحولت إلى نظرية في السلوك وأثبتت قدرتها وفاعليتها على إحداث التحوّل ليس فقط على المستوى المعرفي؛ وإنما أيضًا على المستوى السلوكي.. استكمالاً لحديثي السابق عن العزلة أحاول أن أقدم قراءة ورصدًا وتحليلاً لأحد مسارات العزلة ما بين البعد السلوكي والبعد المعرفي. حيث يجري النقاش حاليًا فيما يعرف بالحالة الانكماشية أو الارتجاع الانتقائي في العلاقات الشخصية وبالذات من بعض الأوساط التي جبلت على العلاقات الاجتماعية الواسعة والمتعددة والمتنوعة.. وذلك عن طريق الانسحاب الممنهج في العلاقات الاجتماعية والسعي العملي للانفتاح على مجتمع العزلة والذي أحال العلاقة الاجتماعية من أولية إلى ثانوية. وفي محاولة اقترابي من هذا الموضوع آثرت أن أتناوله على نحو محدد يتصل بالسيكولوجيا الاجتماعية ولكن تحديد الموضوع بهذه الصورة يجعل الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات في غاية الصعوبة.. إذ إنه لم يتوفر باحث على دراسة الموضوع بهذا التخصص الدقيق، ولهذا السبب الموضوعي رأيت أن أتناوله من ناحية نظرية عامة محاولاً إسقاط الفكرة على البعد الفردي ما أمكن، فإذا ما نظرنا إلى المجتمع نجد ثقافة اجتماعية سائدة وقوية وامتدادات واسعة في العلاقات الاجتماعية.. وفي هذه الحالة فإن أي فرد ما لن ينجح في محاولة تمثل خصائص العزلة فقد يكون أمامه طريق طويل حتى يحصل على القبول النهائي من المجتمع. هذا إذا ما أدركنا أن معظم الراغبين في تمثل ثقافة العزلة يكتفون بدرجة محدودة إما بسبب صعوبة التحول أو بسبب رغبتهم الخاصة في الإبقاء على بعض العلاقات التي تخدم مصالحهم وعند ذلك يكون الفرد غير قادر ولا راغب في الانفصال عن جزء من علاقاته وفي نفس الوقت غير قادر على الاندماج في المجتمع. وأنا هنا لا أتحدث عن الحق الأصلي الذي يكفل لكل إنسان أن يختار لنفسه ما يريد ابتداءً وإنما أتحدث عن السياق الاجتماعي الذي تتخلق فيه التجربة والتي تبدو كأنها تتعلق باستبدال المفاهيم. لنقرأ الموضوع من زاوية فكرية في محاولة لإعطاء بعد واقعي يمكننا من الوقوف على الآثار الإيجابية أو السلبية المترتبة على هذا الفهم والربط أو الفصل بين الفائدة الاجتماعية وإثراء التجربة فيما يعرف بنظام تغيير العادات واستبدال القيم. هذا ومعروف أن الارتجاع في العلاقات الشخصية يعود إلى الضغوط النفسية الناتجة جراء توسع وتنوع وتداخل العلاقات الشخصية وتشعبها والتي تأتي في الغالب خارج معايير العلاقات الثابتة والمنسجمة وإن كان هنالك من يتبنى ما يعرف بآلية تخفيف الضغوط في العلاقات الشخصية عن طريق برمجة العلاقات في إطار التحاشي المقصود.. إلا أن فلسفة تطوير الذات أوجدت مخرجًا تحت ذريعة التطوير السلوكي وقد توصلت إلى هذه القناعة بعدما اختبرت بعض العلاقات في إطار الدراسة. وبرغم أن فلسفة تطوير الذات تبدو وكأنها جزء من تجربة خاصة إلا أنها تحولت إلى نظرية في السلوك وأثبتت قدرتها وفاعليتها على إحداث التحول ليس فقط على المستوى المعرفي وإنما أيضًا على المستوى السلوكي. يطرح اليوم سؤال مركزي عن مدى الإقبال الواسع على قراءة كتب تطوير الذات عالميًا وهنا يعترضنا سؤال آخر: من أين بدأت فكرة تطوير الذات وإلى أين تتجه؟ في سنوات دراستي العليا في حقل الدراسات الآسيوية في جامعة Seton Hall بالولايات المتحدة الأميركية وقفت عند أول الخيط الذي تبدأ فيه فلسفة تطوير الذات وهو الفلسفة الآسيوية والتي هي مزيج من التراث الفلسفي الهندي والصيني والتي أنتجها كبار الفلاسفة أمثال هرشا وشنكارا وناناتك وكونفوسيوش ولودزه واضعي قواعد وأصول الفكر الفلسفي والتي انتقلت إلى الغرب وأعيد إنتاجها في سياق تأملات فلسفية روحانية على أيدي فلاسفة سيكلوجيين واجتماعيين وموسوعيين أمثال: بريان تريسي وأنتوني روبنز وواين دبليو داير وجاي فينلي وأليكس باتاكوس وإكهارت تول وديل كارنيجي وستيفن آر. كوفي. فمثلًا د. جاي فينيلي تعلم تطوير الذات عقب رحلات فلسفية زار فيها الهند وأجزاء من الشرق الأقصى للبحث عما أسماه الحقيقة والحكمة السامية، غير أن هذا اقتضى زمنًا طويلًا في إحالة تلك المقولات الفلسفية الآسيوية إلى صياغات سلوكية وغرسها في منظومة القيم والأخلاق الاجتماعية وتدويلها في إطار العولمة في سياقات سلوكية خارج منظومة القيم والأخلاق التقليدية.