أشار الثعالبي (ت429ه) في كتابه الشهير (يتيمة الدهر) إلى نموذج من ظاهرة خطيرة وقديمة وُجِدت منذ القِدم واستمرت إلى أيامنا هذه، فقد ذكر أن الشاعر السري الرفّاء، وهو الموصوف بأنه «صاحب سر الشعر، الجامع بين نظم عقود الدر، والنفث في عقد السحر»، نابذ الشاعرين الخالدين وناصبهما العداوة، واتهمهما بسرقة شعره وشعر غيره، «وجعل يورق وينسخ ديوان شعر أبي الفتح كشاجم.. وكان يدس فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالديين، ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويغلي سعره، ويشنع بذلك على الخالديين، ويغض منهما، ويظهر مصداق قوله في سرقتهما». ويُلاحظ أن السري الرفاء قام بجريمة «دس» قصائد للخالديين في ديوان كشاجم بغية تحقيق هدفين اثنين: الأول هو تسويق بضاعته «ديوان كشاجم»، والآخر الإضرار بخصومه وتشويه سمعتهم بإيجاد دليل «مزيف» على السرقة المزعومة. وهو من جهة أخرى يرتكب جريمة ثانية وهي الإضرار بإنتاج كشاجم الشعري. وكما ذكر الدكتور سامي الدّهان فقد داخل ديوان الشاعر «الزيف والاضطراب» ولم «تسلم نُسخه من محب أو مبغض، ينسب إليه الأول عيون ما لغيره، ويسلبه الثاني خير ما عنده». ولا يكاد واقع عديد من القصائد الشعبية القديمة، التي لم يدوّن إلا أقلّها، يختلف عما حدث لديون كشاجم من تزييف، فبين الحين والآخر يُفاجأ المتابع بقصائد غريبة تُنسب إلى شعراء راحلين من دون وجود أي مصدر موثوق يؤكد صحة نسبتها إليهم، أو بظهور أبياتٍ مدسوسة بين أبيات قصيدة مشهورة لأهداف لا تخفى على العاقل. ولا شك أن ملف التزييف والتحريف والقصائد المنحولة على ألسنة شعراء شعبيين راحلين ملف يستحق الوقوف والتأمل. ومن الباحثين القلائل الذين امتلكوا الشجاعة لنفي صحة قصائد مشهورة ومتداولة بين الناس بحسن نية وبتسليم تام الباحث القدير الدكتور فايز بن موسى الحربي، فقد سجل في كتابه (أشعار قديمة تنشر لأول مرة) عديدا من التنبيهات والتعليقات التي يصوّب فيها بعض الأخطاء التاريخية في المرويات الشعبية، ويقوم بتصحيح نسبة القصائد التي تُنسب إلى غير أصحابها، كما توقف عند بعض القصائد الشعبية المزيفة التي أكد أن الشعراء أبرياء منها «براءة الذئب من دم يوسف»، وأن «العابثين والرواة حرّفوا أبياتها وزادوا عليها»، وقال في موضع آخر عن إحدى القصائد: «وأرى أن هذه رواية ضعيفة جداً، وفي اعتقادي أن هذه الأشعار من الأشعار الحديثة المصنوعة حديثاً والمبنية على القصص والروايات التي ينسجها الرواة». ولذلك ينبغي للباحث ألّا يتساهل أبداً في قبول أي رواية حديثة لقصائد الشعراء الراحلين قبل التثبت والتحري عن المصدر الذي جاءت منه، فمن السهل على المزيف الذي يصنع قصائد كاملة أن ينظم أبياتاً يدسها بين أبيات شاعرٍ راحل لتحقيق مآربه.