السعودية تحقق أعلى مستوى تقييم في قوانين المنافسة لعام 2023    دجاجة مدللة تعيش في منزل فخم وتملك حساباً في «فيسبوك» !    «الأصفران» يهددان الأخدود والرياض.. والفيحاء يواجه الفتح    الاتحاد يتحدى الهلال في نهائي كأس النخبة لكرة الطائرة    أشباح الروح    بحّارٌ مستكشف    جدة التاريخية.. «الأنسنة» بجودة حياة وعُمران اقتصاد    منها الطبيب والإعلامي والمعلم .. وظائف تحميك من الخرف !    النوم.. علاج مناسب للاضطراب العاطفي    احذر.. الغضب يضيق الأوعية ويدمر القلب    دي ليخت: صافرة الحكم بدون نهاية الكرة أمر مخجل ويفسد كرة القدم    المملكة ونمذجة العدل    خادم الحرمين يرعى مؤتمر مستقبل الطيران الدولي.. 20 الجاري    القيادة تعزي رئيس البرازيل    14.5 مليار ريال مبيعات أسبوع    محافظ قلوة يدشن أعمال ملتقى تمكين الشباب بالمحافظة.    البلوي يخطف ذهبية العالم البارالمبية    مدرب أتالانتا: مباراة مارسيليا الأهم في مسيرتي    91 نقطة أعلى رصيد (نقطي) في تاريخ الكرة السعودية.. رقم الحزم التاريخي.. هل يصمد أمام الزعيم؟    هدف أيمن يحيى مرشح للأجمل آسيوياً    مهرجان المنتجات الزراعية في ضباء    نائب أمير منطقة مكة يكرم الفائزين في مبادرة " منافس    ختام منافسة فورمولا وان بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي    كشافة شباب مكة يطمئنون على المهندس أبا    العمودي والجنيد يحتفلون بناصر    أسرة آل طالع تحتفل بزواج أنس    مذكرة تعاون واجتماع مجلس الأعمال.. المملكة وتايلند تعززان العلاقات الاقتصادية والتجارية    سعود بن جلوي يرعى حفل تخريج 470 من طلبة البكالوريوس والماجستير من كلية جدة العالمية الأهلية    " الحمض" يكشف جريمة قتل بعد 6 عقود    يسرق من حساب خطيبته لشراء خاتم الزفاف    روح المدينة    خلال المعرض الدولي للاختراعات في جنيف.. الطالب عبدالعزيزالحربي يحصد ذهبية تبريد بطاريات الليثيوم    الوعي وتقدير الجار كفيلان بتجنب المشاكل.. مواقف السيارات.. أزمات متجددة داخل الأحياء    عدوان الاحتلال.. قتل وتدمير في غزة ورفح    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات في البرازيل إلى 95 قتيلاً    نائب أمير الشرقية يلتقي أهالي الأحساء ويؤكد اهتمام القيادة بتطور الإنسان السعودي    لقاح لفيروسات" كورونا" غير المكتشفة    تغيير الإجازة الأسبوعية للصالح العام !    الذهب من منظور المدارس الاقتصادية !    أعطيك السي في ؟!    الاتصال بالوزير أسهل من المدير !    أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة من اليوم وحتى الإثنين.. والدفاع المدني يحذّر    القيادة تعزي رئيس البرازيل إثر الفيضانات وما نتج عنها من وفيات وإصابات ومفقودين    مسؤول مصري ل«عكاظ»: مفاوضات القاهرة مستمرة رغم التصعيد الإسرائيلي في رفح    حماس.. إلا الحماقة أعيت من يداويها    35 موهبة سعودية تتأهب للمنافسة على "آيسف 2024"    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس مجلس إدارة شركة العثيم    "الداخلية" تنفذ مبادرة طريق مكة ب 7 دول    وزير الشؤون الإسلامية يدشّن مشاريع ب 212 مليون ريال في جازان    أمير تبوك يشيد بالخدمات الصحية والمستشفيات العسكرية    «حِمى» أصداء في سماء المملكة    إحباط مخطط روسي لاغتيال زيلينسكي    «أسترازينيكا» تسحب لقاح كورونا لقلة الطلب    انطلاق المؤتمر الوطني السادس لكليات الحاسب بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل    الأمير خالد بن سلمان يرعى تخريج الدفعة «21 دفاع جوي»    المدح المذموم    البدر والأثر.. ومحبة الناس !    انتهاك الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالله الجمعة.. انصراف مثقف!!
نشر في الرياض يوم 10 - 09 - 2018

من يقوى على إخفاء دهشته إذا عرف أن شباب بريدة في الستينيات من القرن الماضي كانوا يقرؤون مكسيم جوركي، وليو تولستوي، ودوستويفسكي، وانطوان تشيخوف.. من كان يتصور أن شباب بريدة كانت تدور بينهم أعمال هؤلاء العمالقة الروس وكأنهم في حفلات وجد لا يقاوم حضورها..
لم يسبق لي أن التقيت به. إلا أن حديث صديق عنه أغراني بالاكتشاف والاقتراب. هناك حالات إنسانية قد تمس شيئاً وجدانياً وذهنياً يوفر طاقة غير مألوفة للبحث والاقتراب.. كما قد تكرس أيضاً حالة عزوف وزهد وانصراف.
كل عزلة يفرضها أو يختارها المرء لنفسه تحمل شيئاً جديراً بالاكتشاف، خاصة أولئك الذين انهمكوا بالمعرفة يوماً، وانشغلوا بأحلام كبرى في أيام أُخر، وتوسعت مداركهم بالنهل من مصادر المعرفة والثقافة وانشغلوا بها ردحاً من الزمن.. حتى انطوت السنين، فاختاروا حياة لا عنوان لها سوى خلوة وعزلة اختيارية يتحاشون فيها الانهماك مع البشر قدر الإمكان. يأنسون بخلوة الطبيعة، وبثغاء الماشية، كما يستريحون تحت ظل نخلة يعتنون بها، ويطعمون من ثمرها.. وهم يغدقون عليها ماء الحياة.
حاولت الاتصال به، فلا جواب، فالهاتف مغلق على الدوام. أرسلت له رسالة توحي برغبتي بزيارته.. وفي المساء جاء صوته مستفسراً ومتسائلاً ومنتقداً أيضاً. كانت رغبتي في لقائه أكبر. مواعيده ليست متاحة دائماً فهو من يعتني بنخل مزرعته وبهمها القليل دون مساعدة من عامل أو سواه.
في اليوم التالي، وفي الخامسة مساء كنت أبحث عن تلك المزرعة القصية. ولولا المساعدة لم أكن لأصل لها. دخلت من كوة جانبية فالبوابة مغلقة بالأقفال. استقبلتني بضعة كلاب.. كان نباحها عالياً وأبدت نوعاً من الاستنكار لهذا الزائر المتسلل. لم تكن كلاب حراسة.. كانت من كلاب البيئة المحلية.. أدركتُ فيما بعد أنه آواها وأطعمها فانعقدت بينهما ألفة.. حتى صارت الحارس الأمين لسيدها..
رأيته قادماً.. رجل فارع الطول وجهه معافى وشعر رأسه الأشيب الطويل يتدلى خارج قبعته.. كان ودوداً وكريماً وسخياً في التعبير عن ذاته. وكان تاريخاً لو كتب لكانت حكاية جيل الخمسينيات والستينيات في مدينة بريدة بالقصيم.. والتي تكاد تكون منبتة تماماً عن حكاية أجيال لاحقة..
إنه عبدالله الجمعة، ابن بريدة، طالب العلوم السياسية المتفوق، الحاصل على الماجستير من جامعة «ييل» في الولايات المتحدة الأميركية، والمحاضر في جامعة الملك سعود لسنوات، ومدير عام الشؤون الصحية في القصيم إبان وزارة غازي القصيبي -رحمه الله- في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.. والذي اعتذر عن الاستمرار بعد مضي عام على توليه هذا المنصب.. بعد أن أحدث انقلاباً هائلاً في الإدارة عنوانه: الحزم والالتزام ومن نتائجه مراكمة الخصوم.. ليعود للجامعة مرة أخرى.. ثم إلى عزلته الاختيارية في مزرعة بسيطة شرقي بريدة المدينة.
يقوم عبدالله الجمعة بأداء كل ما يمكنه عمله. لا عامل لديه. يطعم ماشيته بنفسه، ويسقي عشرات من النخيل التي غرسها بيديه.. ثم يعود الرجل السبعيني لخلوته إلى حين..
كل هذا قد يبدو أمراً عادياً في مرحلة عمر تتطلب بعض الخلوة وربما بعض العزلة. غير العادي أن ينحسر عقل مثقف إلى حالة من الانصراف والصمت والاعراض.. كنت أستمع إليه متدفقاً وأنا أفتش في تكوينه الأول. من يقوى على إخفاء دهشته إذا أدرك أن شباب بريدة في الستينيات من القرن الماضي كانوا يقرؤون مكسيم جوركي، وليو تولستوي، ودوستويفسكي، وانطوان تشيخوف.. من كان يتصور أن شباب بريدة كانت تدور بينهم أعمال هؤلاء العمالقة الروس وكأنهم في حفلات وجد لا يقاوم حضورها.. بالإضافة إلى قراءة الأدباء العرب الكبار من طه حسين الى العقاد والحكيم وسواهم.. ناهيك عن أرسطو وأفلاطون ومدينته الفاضلة.
والأعجب أن يجمع عبدالله الجمعة مبلغاً لا يتجاوز الخمس مئة ريال كل عام في مرحلة الدراسة الثانوية، وكان حينها يعمل معلماً أيضاً.. ليحمل حقيبة صغيرة لا تحوي سوى قميصاً وبنطلوناً.. وإلى بيروت. ومن أجل ماذا؟ من أجل أن يقرأ فقط. كان إذا وصل متأخراً يفضل النوم في حديقة ساحة البرج حتى يطلع النهار.. ليختار «بنسيون» رخيصاً يقضي فيه أيام إجازته قارئاً فقط.. كان يذهب لبيروت ليقرأ فقط!! هل ندرك ماذا يعني هذا؟
قال لي «هناك في بيروت قرأت اللامنتمي لكولن ويلسون، ولدهشتي أن هذا الكتاب أشعرني أني لم أقرأ الأدب الروسي كما ينبغي.. لقد وجدت في اللامنتمي قراءات أعمق وأبعد مما كانت ملكاتنا تستوعبه حينذاك..»
حصل على شهادة الثانوية القسم العلمي رغم أنه لم يكن متفرغاً للدراسة، وتم قبوله في كلية الطب في جامعة الرياض -جامعة الملك سعود حالياً وتأسيساً- لينتقل إلى كلية التجارة بعد افتتاح قسم للعلوم السياسية.. وهناك التقى بأستاذه وزميله فيما بعد الدكتور غازي القصيبي.
لم أطق صبراً لموعد بعيد. وجئته على عجل من صباح اليوم التالي مبكراً، لأستعيد مراحل وأفكار وقراءات مثقف متميز وباحث قدير في العلوم السياسية، وقارئ جيد لمصادر ندر أن يحاول من أبناء الجيل الحالي أن يقرأها أو حتى يقترب منها.
انقطع عبدالله الجمعة اليوم عن القراءة لضعف بصره، وربما لأسباب أخرى، لا يحمل سوى هاتف بسيط لا يريد منه سوى أن يصله بمن يريده أو من يبحث عنه عبر رسائل قد تصل متأخرة، فلا إنترنت ولا سواه. يتجول في أرجاء أرضه.. مرة عند بضع ماعز يطعمها، وأخرى بين أشجار نخيل يسقيها ومرة تحت ظل شجرة أثل يتفيأ ظلالها.. وإذا مال قرص الشمس للمغيب فإلى السافية -الرمال الناعمة المرتفعة- ليستعيد بعض ذكريات طفولته وصباه في خب «حويلان».. وملامح الراحلين.. وقضايا ذاك الأمس البعيد.. وبعض هاجس ما زال يمر بعقل يقاوم الخمود.
طوبى لبعض عزلة تعيد للنفس صفاءها وتنقذها من ركاكة اليومي وهراء العابرين.
Your browser does not support the video tag.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.