يعيش العالم اليوم حالة نادرة في التاريخ المعاصر تتمثّل في اختلال مرتكزات مفهوم القوى الكبرى وما تبع ذلك من فوضى سياسية وأمنية وبالطبع ثقافية (عقائدية) على مستوى العالم. وأهم سبب لذلك ربما يعود لحالة الفراغ السياسي والعسكري الذي أحدثه اختلال منظومة الكتلة الشرقية نهاية ثمانينيات القرن الماضي وما تبعه من تراجع للدور الأميركي في العالم جراء الاقتصاد العليل وانشغال العقل الأميركي بمهمة تدوير الصراعات في بقع كثيرة من العالم دون تحقيق مصالح واضحة. ومن معالم هذه الفوضى العالمية أن احتفالات النسر الأميركي بإسقاط الاتحاد السوفيتي سنة 1989 ربما لم تكن سوى نشوة عابرة في غمضة عين من التاريخ. والدليل واضح الآن مع عودة روسيا «بوتين» إلى المسرح الدولي تحت «مشيئة الرب»! «في العقيدة الروسية الجديدة. ويبدو أن روسيا الجديدة لا تسعى إلى الهيمنة العقائدية وفق المفهوم القديم الذي كلّف «الاتحاد السوفيتي» سمعته وفقدان وجوده. روسيا اليوم تبحث عن تموضع جديد على خارطة العالم وفق خليط من «بروليتاريا» الصداقات القديمة ورائحة برجوازية النفط والغاز مع شيء من صوفية الدين الذي لا يضر بالدنيا. وبعد تجاربها المريرة في كوريا وفيتنام ثم أفغانستان والشرق الأوسط لم تفلح الولاياتالمتحدة في تبييض سمعتها عند الشعوب الأخرى كما هو حال بريطانيا وفرنسا التي مصت الدماء قرونا ولكنها نجحت في جعل الشعوب المستعمرة تتنافس للعودة من بوابتي الكومنولث والفرنكوفونية. ولأن الأميركيين يركزون على منصب الرئيس لحل مشكلاتهم بوصفه رئيس الدولة والحكومة (رأس السلطة التنفيذية) والقائد الأعلى للجيش الأميركي فقد جرّبوا في العقود الأخيرة عدة نماذج قيادية لتسويق أمريكا وإعادة وزن بوصلتها الروحية والمادية. وهكذا لم ينجح القس جيمي كارتر ولا الممثل رونالد ريغان ولا المخابراتي العتيد جورج بوش الأب إلا في تكتيكات رد الفعل والحروب بالوكالة واكتساب المزيد من الخصوم. وخلال هذه الحقبة بدى واضحا أن السياسية الأمريكية لم تنجح في حل أكثر المشكلات تعقيدا في شرق أوروبا والشرق الأوسط على الرغم من أنها تملك معظم المفاتيح. وتبدو حيرة الأميركيين واضحة في اختيار الرؤساء مستمرة فكان التوجه إلى شخصيات غريبة مثل «كلنتون» زير النساء الذي نسي الناس فضائحه وانتخبوه مرتين بعد نجاحه في توفير عشرة ملايين فرصة عمل. ثم كان بوش الابن الذي عاصر أحداث 11 سبتمبر 2001 وكان إضافة إلى وظيفته الرئاسية مادة يومية مثيرة لبرامج الكوميديا ورسامي الكرتون. هذا الرئيس حاول دخول التاريخ (حكم فترتين) فخرج منه بوابته الخلفية خائبا بعد أن أدخل أميركيا صحاري وجبال أفغانستان ولم يستطع الخروج ثم سلّم العراق على طبق من الصراع والفوضى لإيران. وفي خلافته وعلى وقع المحافظين الجدد سار الديمقراطي «أوباما» بالفوضى الخلاقة لتخرج من بين حشائش الربيع العربي ثعابين عشرات الميليشيات والعصابات في سورية والعراق وليبيا وغيرها. وحيث أصبح مِن نَكدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ مصادقة الخصوم فإن العالم اليوم ربما يحتاج إلى عرّاف عبقري يقرأ مشتركات إيمان «بوتين» و»تغريدات» «ترمب» في ضوء الابتسامات الصينيّة المتكلّفة ووجه ألمانيا المتجهّم بين الخوف وطموح الدور. * قال ومضى: من تعلّم تكلّم. Your browser does not support the video tag.