من الأخبار الطريفة التي أوردها ابن قتيبة في كتابه (الشعراء والشعراء)، وذلك في سياق حديثه عن صعوبة المفاضلة بين الشعراء، خبرٌ جاء فيه أن مروان بن أبي حفصة أُنشد لزُهير بن أبي سلمى فقال: "زُهير أشعرُ الناس، ثم أُنشدَ للأعشى فقال: بل هذا أشعرُ الناس، ثم أُنشد لامرئ القيس فكأنما سمع به غِناءً على شراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس"! يُبيّن لنا هذا الخبر سرعة انهيار الأحكام السطحية التي تستعجل تفضيل شاعر على الشعراء الآخرين من غير استناد على معايير نقدية واضحة، كما يُذكّرنا بآراء ونقاشات عديدة تطول وتنتهي من دون الوصول إلى أي اتفاق حول أفضلية شاعر معين على غيره، ومن أبرز الأسباب التي تجعل عملية المفاضلة لا تخرج - في معظم الأحيان - عن كونها عملية عبثية لا جدوى منها أن الحكم بتفضيل الشاعر على غيره غالباً ما يكون حكماً انفعالياً مصدره الإعجاب والانبهار فقط، وليس ناتجاً عن دراسة شاملة أو تأمل عميق لمجمل إنتاج الشاعر وإنتاج الطرف الآخر في عملية الموازنة. وقد نبّه الدكتور زكي مبارك إلى أخطاء أخرى يقع فيها النقاد عند القيام بالمفاضلة بين الشعراء، من بينها تفضيل كل قديم على كل جديد، وتفضيل الناقد للشاعر لمجرد أنه نظم في موضوع أو غرض يحبه أو تميل نفسه إليه. وذكر مبارك أن الإعجاب لا يمكن أن يُعدَّ دليلاً على حُسن ما استحسنه الشخص وقام بالتفضيل بناءً عليه، وأورد العديد من الشواهد التي تُبيّن الإشكالية الكبرى في عملية المفاضلة وهي أن أحكام التفضيل تخضع في كثير من الأحيان لاعتبارات أخرى لا علاقة لها بالإبداع ولا بجودة الإنتاج الأدبي للشاعر، ومن ذلك قول عبد الملك بن مروان بعد أن استمع لمدح الأخطل: "أأنادي في الناس أنك أشعر العرب؟ فقال الأخطل: حسبي شهادتك يا أمير المؤمنين". يقول زكي مبارك تعقيباً على هذا الخبر: "ولم يكن الأخطل أشعر العرب إذ ذاك، فقد كان جرير والفرزدق في الميدان، ولكن عبد الملك خضع في حكمه للمصلحة الذاتية لا الحاسة الفنية، فقد كان الأخطل سليط اللسان، خبيث الهجاء، وكان عبد الملك قد استعان به على لذع من يناوئه من رجال السياسة وشعراء الأحزاب". تبدو عملية الموازنة بين الشعراء عملية بالغة السهولة إذا ما نظرنا إلى شيوعها في كتاباتنا وأحاديثنا، لكن المتأمل يُدرك بأنها من أكثر الممارسات النقدية صعوبة إذا كان لدى الناقد حرصٌ على الوصول إلى نتائج دقيقة ومنصفة لجميع الأطراف. أخيراً يقول رشيد الدهام: ما لقيت أحدٍ على الدنيا هني وكلٍ همومه على قدّه تصير الفقير يحقّر هموم الغني والغني يستتفه هموم الفقير. Your browser does not support the video tag.