إننا إزاء أناس قادرين على أن تضم نفوسهم تناقضات تستدعي التساؤل، حيث ترنو بأبصارهم إلى الهوتين في آن واحد، الهوّة العليا التي تحلق فيها أنبل المثل، والهوة السفلى التي تغوص في الرداءة والسقوط!! طغت إمكانية صناعة الإنسان والتحكم بمصيره، على أفكار فلاسفة ومفكرين.. وكأن تشكيل الإنسان والتحكم بمصيره لا يحتاج إلى أكثر من تعليم متفوق وتربية جيدة وبيئة تواجه هذا التحدي بإمكانات وتطلعات تعظم شأن العلم والعقل والمعرفة. وإن كان من المؤكد أن النشأة والتربية والتعليم الجيد والعناية المناسبة.. كلها مؤثرات مهمة في تكوين شخصية الفرد.. وربما توجيهه لمسار يراه الآباء مناسباً وبراقاً وذا حضور في مواجهة الحياة.. إلا أن حسابات البيدر لا تنطبق على الحقل بالضرورة.. قد يعذر أفراد وجماعات نشأوا في ظروف اجتماعية صعبة، وعانوا من فقدان الوسائل المؤثرة في بناء شخصياتهم الطبيعية بالعلم والرعاية والتوجيه الإيجابي.. ومع ذلك، فهناك من يصعد الجبل ويصل للقمة، وهو ما يثير الفضول والإعجاب.. وإن كان أولئك في الغالب ليسوا القاعدة الصالحة للقياس.. كما أن تهيئة بيئة مناسبة للتعليم والتربية السوية ليست أيضاً مقومات كافية للوصول إلى القدرة على التحكم بمصير الإنسان!! في فصل "الشاعر والعالم" من كتاب الدكتور جلال أمين "مكتوب على الجبين.." استعاد ملمح لتلك الأفكار التي كانت وما زالت مجالاً لبحث المفكرين والفلاسفة.. وهو يقارن بين رؤية الشاعر الهندي الكبير "طاغور" والمفكر البريطاني الشهير "برتراند راسل" في مسألة التحكم بمصير الإنسان. فهو يقول: ظل "برتراند راسل" طوال حياته يعتقد أن العقل الإنساني، إذا تخلص من الخزعبلات ومن التحيزات ومن الأهواء...، فهو قادر على حل جميع المشكلات الإنسانية، وعلى تحقيق السعادة على الأرض، فيتجنب الحروب ويعم السلام، ويقضي على الاستغلال، فتعم المودة، وينتهي صراع الطبقات.. كان "برتراند راسل" شديد التفاؤل بما يمكن أن يحققه التعليم الجيد، والتربية الصحيحة في غرس كل ما نتمنى أن يكون من صفات في أبنائنا.. فينشأ هؤلاء خيرين وخالين من العُقد، وقادرين على تحقيق السعادة المنشودة.. باختصار لم يكن هناك فيما يبدو شيء غير مرغوب في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلاقات الدولية.. لا يمكن تحقيقه في نظر "برتراند راسل" لو التزمنا بقواعد التفكير العقلاني والعلم. ولم يكن ل"طاغور" مثل هذه الثقة بالقدرة على التحكم في مصير الإنسان. فهناك قوى خارجة عن إرادة الإنسان، فلا يستطيع السيطرة عليها إلا في حدود، ومن المفيد للإنسان أن يدرك أن قدرته على تحقيق ما يتمناه محدودة، بل وعليه أن يتعلم كيف يقبل ما لا يستطيع تغييره بنفس راضية.. وإن كان العالم والعلاقات الإنسانية حافلة بالأشياء الجميلة وكثير من الناس خيرون، ولكن القبح والشر ليسا فقط موجودين، بل هما جزء مهم من طبيعة الإنسان والحياة، ولا جدوى تصور أن لدينا القدرة على القضاء عليهما. العلم والمعرفة العقلانية أمور مطلوبة، ولكننا يجب أن نسلم بأن لكل منها حدوده، ومن الحماقة أن نبالغ في قدرتنا على تغيير العالم عن طريق العلم. الإنسان جزء من الطبيعة، وليست مهمة الإنسان السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لأغراضه، بل يجب أن يتعلم كيف يتعايش معها ولا يفرط في استغلالها لصالحة. كان برتراند راسل يكره هذا الاستسلام "الشرقي"، ولكن طاغور كان يكره أيضاً غرور الحضارة الغربية. لا عجب أن عبر كل منهما عن يأسه من إصلاح الآخر.. ويعلق جلال أمين: لقد قرأت لهذا وذاك، ولمست أوجه القوة لدى كل منهما، وظللت اعتقد ان من الممكن ان يكون لكل منهما مكان إلى جانب الآخر في عقلي. ولكني قرأت منذ فترة وجيزة كتاباً عن سيرة "برتراند راسل" جعل نظرتي إليه تهتز بشدة. كتب "ر. مانك" مؤلف الكتاب أكثر من ألف صفحة عن راسل في جزئين.. حتى يتمكن من التغطية المفصلة لحياة الرجل الذي عاش 98 عاماً، وظل نشيطاً ومؤثراً إلى آخر يوم في حياته. ولكن الكتاب يحتوي أيضاً على أسرار ظلت مجهولة حتى نشر الكاتب محتويات الخطابات العديدة المتبادلة بين راسل وزوجاته الأربع وأبنائه وأصدقائه، مما رسم صورة مذهلة للرجل، حيث ظهر ذلك التباين بين ما اقترن به إيمانه الذي لا يتزعزع بالعقلانية وبقدرة الإنسان على تغيير العالم من شطط وإعجاب بالنفس وقسوة حتى في معاملة أقرب الناس إليه.. كما كشف الكتاب عن فشل راسل فشلاً ذريعاً في محاولاته لتشكيل شخصية أولاده، غير معترف بالنوازع والميول الطبيعية أو الموروثة التي لا يمكن التحكم بها.. فكانت النتائج ليست مخيبة لآماله، بل وأيضا مأساوية لبعض من أقرب الناس إليه، إن لم تكن مأساوية له أيضاً.. وقد استعادني هذا الحديث عن راسل، إلى تلك التناقضات التي عاشها مفكرون بين تنظيراتهم وأحوالهم أو سلوكهم.. مما يعني أننا إزاء أناس قادرين على أن تضم نفوسهم تناقضات تستدعي التساؤل، حيث ترنو بأبصارهم إلى الهوتين في آن واحد، الهوّة العليا التي تحلق فيها أنبل المثل، والهوة السفلى التي تغوص في الرداءة والسقوط. وإذا كان راسل فشل في تشكيل شخصية أبنائه، فإن صاحب العقد الاجتماعي وأحد أعمدة التنوير الأوروبي "جان جاك روسو" الذي أنجب خمسة أطفال من رفيقته وخادمته قد أرسلهم جميعاً إلى دار الأيتام لرفضه رعايتهم.. هل نحن إزاء تناقضات صارخة بين المثل والأفكار النيرة وبين نقضيها من سلوكيات تحتفي تحت ستار معتم بكل جورها وبؤسها