لاتخلو دور السينما في باريس من عدد لابأس به من الأفلام التوثيقية، والتي تتحدث عن شخصيات مؤثرة في تاريخنا البشري، ويجد الجهمور أنه من المثير متابعة كيف تهتم السينما العالمية بإحياء مسيرة تلك القمم البشرية. وأنني بصدد متابعة بعض تلك الأفلام وبدأت هذه السلسة بفيلم المصور الفوتوغرافي (سالاجادو). ومن المهم التوقف ابتداء بدور السينما التي يطلق عليها(الدور المستقلة) والتي تتخصص في عرض الأفلام الجادة، وتلك الوثائقية، مثل سينما بلزاك الواقعة في الرقم 1 بشارع بلزاك بالمنطقة الثامنة بباريس في أحد التفرعات من شارع الشانزلزيه المطروق من السياح وخاصة الخليجيين، لكن بقية دور السينما الخاضعة للصيحات العالمية في هذا الشارع التجاري تسرق بفخامتها الأضواء من دور مثل بلزاك، والتي هي واحدة من آخر دور السينما المستقلة في الضفة اليمني لنهر السين، والتي يحرص مؤسسها ومديرها (جان جاك شبولينسكي) على ربح المعركة مع التجاري والسطحي، والاستمرار في تقديم الطروحات ذات النوعية الثقافية المتفوقة، وتحويل تلك الدار لما يشبه النادي الثقافي. مدخل دار السينما لايزال على حاله منذ 1935، ومن كوة على المدخل يطل علينا من مكتبه صاحب الدار شبولينسكي والمعروف بصفته الرجل السعيد، كما يلقبونه في باريس أيضاً بلقب (مستر بلزاك)، ولقد تولى إدارة هذه الدار بعد وفاة والده عام 1973، هذا المحارب الدائم الابتسام يطلق العنان لشغفه بالسينما من خلال هذا المسرح العريق الذي أسسه جده عام 1935 أي منذ ما يقارب الثمانين عاماً متيمناً باسم أهم رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، فبلزاك اشتهر بكونه روائياً وكاتباً مسرحياً وناقداً أدبياً وفنياً وكاتباً صحافياً ترك بصمته العميقة على الأدب الفرنسي برواياته التي تتعدى 91 رواية، و137 قصة قصيرة. ولقد أختار الجد المؤسس لدار السينما الرمز بلزاك لكي يلقي الضوء على النوعية الراقية لما ستطرحه هذه الدار، والتي يحمل بتفان إرثها الإبن جان جاك، وهو غالباً ما يحضر شخصياً للترحيب بالمشاهدين والتقديم للفيلم المطروح، ولديه فريق عمل عبقري في تنظيم المناسابت الثقافية، ويحرص شخصياً على انتقاء الأفلام التي تعرض فيها، ويستضيف الجمهور في مسرحه لتنظيم لقاءات لمناقشة تلك الأفلام، والتحاور حول القضايا الفكرية الساخنة، كما ينظم عروضا للأفلام العريقة في تاريخ السينما بمرافقة عزف بيانو للأطفال في أول كل أحد من كل شهر، وينقل عروض الأوبرا من مختلف انحاء العالم ويبثها لأعضاء ناديه، وينظم للقاءت للتعرف على المطبخ المتميز لجيرانه الطباخين الحاصلين على نجمة ميشلان للتفوق في الطبخ، هو بحق يحول دار عرضه لمكان يجعل المتميز والاستثنائي أمراً معاشاً بشكل يومي، وبذلك انتخبت سينما بلزاك كأهم دور عرض السينما في باريس باختيار الجمهور، ولقد ضربت هذه الدار الرقم القياسي في عدد الجمهور الذي يرتادها سنوياً، حيث بلغ عدد المشاهدين في الخمسينيات والستينيات 400000 متفرجاً سنوياً، بينما يستحيل الآن لأي دار عرض أن تتجاوز ال 170000 متفرجاً سنوياً. تشعر بالرهبة حين يستضيفونك للتجول في الكواليس، وتعبر في ممرات تتغطى جدرانها من الأرض للسقف ببكرات الأفلام القديمة، حيث لايؤمن ا لسيد بلزاك بالتصوير الرقمي (الديجيتال)، تشعر أن تلك آخر ممالك التكنولوجيا العتيقة، وأن تلك البكرات تدور وتهمس في رأسك بمحتوياتها وموسيقاها وشخصياتها التي تطورت بشكل متسارع خلال ثلاثة أرباع قرن. تنتهي في مكتب السيد بلزاك، والذي يعد تحفة فنية وإرشيفاً مهماً للسينما، حيث تتكدس فيه ملفات مفهرسة بعناية تحوي وثائق تاريخية وقصاصات صحف لما يزيد عن الثمانية عقود من الزمان تؤرخ للسينما التي مرت بدار العرض هذه، ابتداء منذ افتتاحها والمقالات التي ظهرت في الصحف عن افتتاحها. ومع أن السيد بلزاك لايتقن وسائل التواصل الاجتماعي إلا أن الدر لها موقع على الإنترنت يديره أعوانه، وبوسع الجمهور التسجيل من خلاله في النادي الملحق بالدار. ويشعر السيد بلزاك بانتماء عميق لمنطقة الشانزلزيه، رغم صعوبة البقاء فيها لدور عرض السينما بسبب الارتفاع الخيالي لإيجاراتها بسبب المنافسة التجارية على محلاتها، لكنه يصارع للبقاء، لأن الشانزلزيه مرتبط بطفولته، ويذكر (كنت أمشي في هذا الشارع مع أبي حين كنت طفلاً، وكان يستغرقنا عبوره ثلاث ساعات لأن الكل بطول الشارع يعرف أبي وهو يتوقف في كل خطوة لتحيتهم، أنا اؤمن أن هذا الشارع بوسعه أن يلعب دوراً ثقافياً في باريس، لذا أتمسك بدار العرض رغم صعوبة ذلك، إذ أنه من الصعب أن تعمر دار سينما في الضفة اليمنى للنهر، لأنها ضفة تتنافس عليها الشركات التجارية، ولقد هجرت من قبل الباريسيين، لقد كانت في الشانزلزيه 65 شاشة عرض عام 1970، وبقي الآن منها 35 فقط. ان مهمتي أن أخوض معارك متعددة منها بعث الثقافة الجادة في هذا الحي، وتقديم سينما نوعية لمرتادي دورالعرض، وتحويل السينما لمكان يتجاوز كونه مكاناً يشتري فيه الجمهور التذاكر والوجبات الخفيفة، ليصير مكاناً يشارك فيه المشاهد في مغامرة. حيث لابد وأن يقدم الفيلم المطروح وجهة نظر ورؤيا، وليس مجرد الترفيه السلبي، من المهم أن يكون للسينما دور مؤثر في صياغة التوجهات الثقافية للمجتمع". لاتملك إلا أن تشعر بالتعاطف مع معركة هذا الرجل، ولاسيما حين تعرف أن سينما بلزاك مع سينما هيدلر وسينما سكالا كانت الدور التي تميز ضفة باريس اليمنى، واحتلت الصدارة خلال الخمسينيات والستينيات، والآن تقف بلزاك وحدها كدار مستقلة بعد أن أغلقت الدارين الأخريين، فلقد اختفت هيدلر القريبة من الأوبراعام 1988 وتحولت لمطاعم ماكدونالدز للوجبات السريعة، كما تم إغلاق وهدم دار سكالا في المنطقة العاشرة 1989، وحسمت المعركة لصالح التجاري. المعركة التي يؤكد السيد بلزاك أنه لن يكف يخوضها وسينقلها لأحفاده.