الأمير محمد بن ناصر يرعى حفل تخريج الدفعة 19 من طلبة جامعة جازان    مواقع التواصل تحتفي بمغادرة خادم الحرمين الشريفين المستشفى    ⁠87% من مبادرات رؤية المملكة 2030 مكتملة    نائب وزير الخارجية يجتمع بالوزير المستشار لرئيس نيكاراغوا للسياسات والعلاقات الدولية ويوقعان مذكرة تفاهم    نائب وزير الخارجية يلتقي رئيس البنك المركزي في نيكاراغوا    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس مجلس أمناء جمعية قبس للقرآن والسنة    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 47 لمساعدة أهالي غزة    كاوست ونيوم تكشفان عن أكبر مشروع لإحياء الشعاب المرجانية في العالم    "أدوبي" ترقي الفيديو بالذكاء الاصطناعي    استقرار أسعار النفط    "الجمعة".. ذروة استخدام الإنترنت بالمملكة    أمير عسير يعزي الشيخ ابن قحيصان في وفاة والدته    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    هل تشتعل جبهة جنوب لبنان ؟    روسيا: زيارة بلينكن للصين تهدف لتمزيق العلاقات بين موسكو وبكين    الأخضر السعودي 18 عاماً يخسر من مالي    الإبراهيم: تشجيع الابتكار وتطوير رأس المال البشري يسرعان النمو الاقتصادي    الإبراهيم: إستراتيجياتنا تحدث نقلة اقتصادية هيكلية    الراقي في اختبار مدرسة الوسطى.. الوحدة والفيحاء يواجهان الحزم والطائي    ميندي وهندي والنابت مهددون بالغياب عن الأهلي    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    «الرابطة» تُدين استمرار الاحتلال ارتكاب جرائم الحرب في غزة    فهد بن سلطان يتسلّم شهادة اعتماد تبوك مدينة صحيّة    أدوات الفكر في القرآن    4 نصائح طبية عند استعمال كريم الوقاية من الشمس    بيع "لوحة الآنسة ليسر" للرسام كليمت بمبلغ 32 مليون يورو    الأوبرا قنطرة إبداع    مركز وقاء بمنطقة الرياض يبدأ المرحلة الأولى لتحصين المواشي    الملك يغادر المستشفى بعد استكمال فحوصات روتينية    حجار التعصب تفرح بسقوط الهلال    مساعد رئيس مجلس الشورى تلتقي بوفد من كبار مساعدي ومستشاري أعضاء الكونغرس الأمريكي    سوناك وشولتس يتعهّدان دعم أوكرانيا "طالما استغرق الأمر" (تحديث)    اللهيبي تُطلق ملتقى «نافس وشركاء النجاح»    مين السبب في الحب ؟!    مشاهدات مليارية !    اللي فاهمين الشُّهرة غلط !    النفع الصوري    حياكة الذهب    لا تستعجلوا على الأول الابتدائي    إجراء أول عملية استبدال ركبة عبر «اليوم الواحد»    «سدايا» تطور مهارات قيادات 8 جهات حكومية    أمير الشرقية: القيادة تولي العلم والتنمية البشرية رعاية خاصة    تحت رعاية وزير الداخلية.. "أمن المنشآت" تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    مقصد للرحالة والمؤرخين على مرِّ العصور.. سدوس.. علامة تاريخية في جزيرة العرب    رسالة فنية    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    "أم التنانين" يزور نظامنا الشمسي    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    الإسباني "خوسيلو" على رادار أندية الدوري السعودي    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    بعضها يربك نتائج تحاليل الدم.. مختصون يحذرون من التناول العشوائي للمكملات والفيتامينات    تجاهلت عضة كلب فماتت بعد شهرين    قطاع القحمة الصحي يُنظّم فعالية "الأسبوع العالمي للتحصينات"    أمير عسير يواسي أسرة آل جفشر    أمير حائل يرفع الشكر والامتنان للقيادة على منح متضرري «طابة» تعويضات السكن    المجمع الفقهي الإسلامي يصدر قرارات وبيانات في عددٍ من القضايا والمستجدات في ختام دورته ال 23 clock-icon الثلاثاء 1445/10/14    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدلية الشك واليقين في ديوان (وعنْدَ الصَّباح لا يَحْمدُ القَومُ السُّرَى)
نشر في المدينة يوم 15 - 12 - 2010

النص الإبداعي يقوم أسه على تكثيف في اللغة وتلوين في الرؤية. وتمثل فكرة أو مجموعة من الأفكار تأخذ بتلابيب سياقه في كليته أو في جزء منه، وحين تلمس طبيعة هذه العناصر المكونة للنص وتتبع ممارسة فاعليتها فإنها قد تفيض بكم من الدلالات النفسية والفكرية والثقافية والاجتماعية وسواها من الدلالات التي تشكل في مجملها علامة فارقة ترفع من قيمة هذا النص أو العمل الإبداعي بشكل عام. وقد يجيء عنصر من تلك العناصر أو مجموعها في لبوس من غموض شديد، أو ترميز غارق في رمزيته، أو تناسل فج يضعف شعرية النص وقيمته الإبداعية.
إن إبداع النص الشعري في احتياج دائم إلى مصدر يستمد منه وعيه المعرفي والروحي، ولعل الواقع من أهم المصادر التي لا تغيب عن وعي المبدع في لحظة الإبداع، فلا مفر له من استحضار الواقع وصوره وما يعتمل فيه من أحداث، ويظهر أثره في تحول قناعات المبدع الفكرية والسياسية وتجليات ملامحه النفسية والإدراكية، وهي إشارات هامة تخدم القارئ كثيرًا في إثناء تعاطيه مع وحي النص ومكوناته الدلالية، وإن كانت لا تغني عن ضرورة انفتاح أفق القراءة على إمكانات العقل النقدي وآلياته في تشريح النص وسبر أغواره وما ينطوي عليه من علاقات وتراكيب وتداخلات وأبعاد موضوعية وفنية.
وعند متابعة تجربة الشاعر السعودي يوسف حسن العارف الإبداعية يتكشف للقارئ أنها تجربة عميقة ترتبط بقيم معرفية وجمالية غالبًا ما تخضع لمبدأ التجادل، مثل جدلية التشابه والتخالف، والحضور والغياب، والأنا والآخر، والشك واليقين وسواها من جدليات تضفي قدرًا كبيرًا من الإبداع على مدونة الشاعر، بحيث تظل تدفع بالقارئ إلى بذل الجهد والمثابرة من أجل اختراق بنية النص وملامسة ما ينساب فيها من رؤى، أو ما يعتمل فيها من فكر وثقافة وقضايا متعددة.
وبما أن مدونة الشاعر العارف تتسع لأكثر من عمل إبداعي (1)، فإن المقاربة النصية ستتحرك في سياق عمل شعري واحد، حتى تكون متوازنة في الحركة، وهو «وعند الصباح لا يحمد القوم السرى» ( 2). وقد احتوى هذا العنوان بشكل مباشر على مبدأ التجادل مع التراث ومخالفة وعيه الكائن، فالإدراك يزداد في بيان المعنى الفعلي للجملة المكونة للعنوان، فهي مجرد استدعاء لمثل عربي فصيح ينتج معرفة تتداعى في الذاكرة العربية حين يستدعى المثل بصيغته كاملة، وهي (عند الصباح يحمد القوم السرى)، وقد ضُمن هذا المثل في أبيات شعرية كثيرة في ديوان الشعر العربي دون تحريف أو زيادة أو نقصان بغرض الاستشهاد بقيمته المعرفية؛ ولذلك أصبح له مدلولاً يُنتج علاميًا في وعي الإنسان العربي، من حيث إشارته إلى عاقبة الصبر على مكابدة الأمور. وخلف المعنى الظاهر تسكن اللحظة الزمنية، بؤرة التمثل وغاية الاعتبار، وهي لحظة التحمل والصبر /الليل حين يسري القوم، فمن عادة العرب الاستتار بالليل من أجل طي البعد وتحقيق المآرب، وحين الصباح يحمدون فعلهم، ولهم في ذلك أمثال تتناغم مع هذا المعنى مثل قولهم (اتخذ الليل جملا).
إذن يظهر فعل التخالف بوضوح في بنية العنوان، وقد أفضى هذا الفعل إلى نفي النسق المعرفي للمثل بأداة تتكون من حرفين فقط (لا)، حيث استطاعت تشكيل مفهوم يخالف ما هو معلوم، فالليل لم يعد يمنح الأمان لمسرى القوم، وبناء عليه فالصباح لم يعد يحتضن الأمل.
لن نقف كثيرًا عند بنية العنوان، على الرغم من أنها تفسر لنا سوءة الواقع المعاصر وما ينتجه من مفارقات توحي بانفصام الذات المبدعة في سياق هذا الواقع، وهذا ما يتبدى لنا في أثناء مقاربة خاصية الجدل بين الشك واليقين، ورجحان كفة يقين الشك في هذا العمل الشعري. وندرك أن ثمة من قد توسوس له نفسه في تفسير هذه الجدلية؛ ولذلك فإننا نقطع دابر التقول في هذا الموضوع، ونعلن سلفًا أن المقاربة تتحرك في سياق جدلية الواقع الثقافي والمعرفي والسياسي والاجتماعي في اللحظة المعاصرة، لا سياق الواقع العقدي حيث لا حيز لأدنى شك في مسلمات يدين بها الشاعر وندين إيمانًا واعتقادًا لرب العالمين.
ولما كانت فكرة جدلية الشك واليقين موضوع المقاربة تعمل بفاعلية في ديوان «وعند الصباح لا يحمد القوم السرى»، فقد آثرنا أن نقف على الفضاء الذي تتحرك فيه الفكرة من خلال مقاربة لغة النصوص واستقراء تجلياتها الخارجية والعميقة بغرض استخلاص المعنى والمعنى المضاد حتى يتأكد لنا فهم المسعى الجدلي الذي يتحكم في علاقات إنتاج النص دون فرض أية فلسفة لا تترجم حركته أو لا تتفاعل مع طبيعة المسعى وغاياته التي تنشأ في داخله وتتداخل وتتقاطع في جدل يلفت الانتباه ويتيح فرصة الربط بين سياقات الخطاب النصي والظروف التي تظهر هذه السياقات.
إن من وظائف النص الشعري التعبير عن العالم ومشاكله وتصويرها بتكنيك إبداعي تتجلى فيه قيم الحياة بشكل عام، وليس في طاقة وعي المبدع الخلاص من كينونة الواقع ومعالمه الخارجية التي يتحرك فيها وتسير معه في إدراكه ووعيه الشعري، وهذا ما يستحضره وعي الشاعر العارف في تجربته. وقراءة النص الشعري «انهيار» بحس نقدي تفضي إلى المساك بالقيمة المهيمنة على سياق النص، حيث تفصح هذه القيمة في ظاهرها عن استيعاب مفردات الواقع المختلفة وما يطرأ عليها من متغيرات بأسلوب جدلي يراوح بين الشك واليقين ، يقول الشاعر العارف في قصيدة «انهيار» ( 3):
سأحمل في مقلتيَّ بريق الأماسي
وما من خيار!!
هو الآن محتدمًا في يقيني...
ومفترشًا كل شكِّي..
ومنتهزًا ما مضى من خطايا..
فأين الفرار..
وأين الفرار!!
هو الوقت سيد أيامنا..
فقم سيد الوقت..
حان النهار...
وحان لك الانهيار!!
ثمة رابط يجمع بتكنيك إبداعي بين إشعاعات النص الماثل وإشعاعات بنية عنوان العمل الشعري (وعند الصباح لا يحمد القوم السرى)، وهو إجلاء اللحظة الزمنية الغائبة نصيا في بنية العنوان/ المساء /لحظة مسرى القوم، التي تمارس فاعليتها بقوة الثقافة الراسخة في الوعي الجمعي، أي: المفهوم الذي يحمله المثل العربي (عند الصباح يحمد القوم السرى)، وصيغة المثل الحقيقية عندما تأتي دون حذف أو إضافة تستدعي حضور قيمة المثل وفاعليته (الأمل، والتجاوز، والخلاص)، ولكن ما هو ماثل في العنوان هو التدخل في وظيفة المثل من خلال إضافة حرفي العطف/الواو، والنفي/لا، وهذا التصرف يلغي وظيفة المثل ويبرز خاصية الغياب، أي غياب فاعلية المثل كما هو سائد ومعلوم، إضافة إلى حضور ما يتضاد مع قيمته المعرفية/الأمل، والخلاص و...، فما نجده هو العكس(اليأس، والانهيار، والألم)، وهذا يتناغم مع ما تنتجه مقاربة النص الشعري (انهيار). ولعل اقتصار عنوان النص على مفردة واحدة يعكس مدى حرص الشاعر على اختصار ذاكرة اللحظة المعاصرة بشكل مباشر في دال لغوي يحفل بكم هائل من الدلالات الغارقة في مرآة الواقع وسوءاته، دون أن يخفي شعوره وأحاسيسه تجاه هذه اللحظة التي تختزل كل منابع الألم والعذاب، وقد أفضت هذه الحالة الدامية إلى نفي القيمة المعرفية التي تضيء في الوعي الجمعي كما فعل في نفي قيمة المثل إضافة إلى سلب قناعاته دور الفاعلية حتى أصبحت قابلة للتشكل والإلغاء ببساطة في سياق عملية التجادل بين الشك واليقين، وهذا ما يرد بوضوح في سياق النص، فبريق الأماسي (الأمل، والخلاص، وانتفاء الوحشة) مع محاولة تمثله يعكس طبيعة الحضور بشكل باهت، ويلفت الانتباه إلى حدة المجادلة بين يقين واحد يحتدم في الصراع وبين الشك كله الذي تفترشه محاولة التمثل، وفرق كبير بين احتدام اليقين الذي يوحي بصراع بيني، وبين افتراش الشك الذي يثبت طغيان الحضور وقوة فاعليته بدلالة استجداء الفرار وإعلان حالة الانهيار.
إن ارتهان النص الشعري في كليته إلى ممارسات اللحظة الزمنية في صيغها المتعددة (الأماسي، والماضي، والوقت/مرتان، والأيام، والنهار) ينبئ بمصير سلبي/الانهيار، فضلاً عن إحالة مفاهيم كثير من المفردات إلى الزمن (البرق، والاحتدام، والانتهاز، وحان/الحين، والانهيار)، كلها مفردات سواء جاءت في صيغة الفعل أم الاسم ترتبط بداهة بالزمن وتستوعب حالة الالتباس التي يعيشها الشعور تحت وطأته. وما تركيزه في سياق النص على مفردات تنتسب إلى مجال الزمن الدلالي إلا ناتج فعلي لتلك الوطأة. وقد أتاحت كثرة اقتران النص بالزمن فرصة بيان قوة ممارسة اللحظة الراهنة على هاجس الشاعر وفكره وشعوره، فحيثما حلت هذه القوة فإنها تستدعي حضور مبدأ التجادل بين الشك واليقين لفرز شعور الشاعر وفكره وموقفه من فاجعة الانهيار في مختلف المجالات، وبيان مدى انعكاس تفاصيلها على تماسك العقل والنفس في أثناء التعاطي مع لحظات الشعور بالدونية والاغتراب والفقر والكبت وسواها من ممارسات يكتوي بلظاها الإنسان في اللحظة الزمنية الراهنة. ولعل في قصيدة (وعند الصباح لا يحمد القوم السرى) ما يكشف عن حالة التشظي التي تعيشها الذات الشاعرة في سياق هذه اللحظة، فبعضه يحاور بعضه (قال بعضي لبعضي) وأهمية الحوار أننا من خلاله نعاين مدى اعتصار ألم اللحظة، واستفحال اشتباك الفكر والشعور عند محاولة إدراك تفاصيلها ووصف متناقضاتها، يقول العارف ( 4):
قال بعضي لبعضي:
أيها الواقف بين مخاضين..
ونار وبرد..
وليل ورماد....
ها أنت لا غلس يوحي بفجر
ولا صيف يوحي باللبن!!
ها أنت بين مخاضين..
ونار ورمل
وليل وجماد!!
«هذه أولى القراءات ..
وبعض النبوءات..
ولازلت في نصف الطريق!!.
في النص الماثل نلاحظ أن حركة الوعي الشعري تمتد في فضاء النص متلبسة بجدلية الشك واليقين، ويتجلى أثرها في ارتفاع نسبة حضور الكينونة، وتجاوز الانكفاء على الذات إلى التحاور البيني، وفي ذلك إيحاء بتلاشي التواصل مع المحيط والفرار منه، ليس حميمية في الذات أو رغبة في التأمل في فضائها المفتوح، وإنما محاولة لتفسير كينونة الواقع وتبيين ارتفاع درجة خطورتها في اللحظة المعاصرة، وما نصادفه في سياق النص من معان يكشف عن مدى ارتداد الحوار البيني إلى آثار الفضاء الخارجي، وفاعليتها في التفرد بالذات والإخلال بتوازنها، مما أنتج حالة جدلية تطغى في ممارستها على الوعي الشعري وتتحكم فيها ثنائية الشك واليقين، فهو يقف بين نار وبرد، وليل ورماد، ونار ورمل، وليل وجماد، فضلاً عن تسيد السواد واليأس، كل هذه ظواهر لا تحتاج إلى تبرير دوافع الانفعال في حضرتها وانحصار مفاهيمها ومعانيها بين الشك واليقين، وإن كان صوت الشك أعلى نبرة من صوت اليقين، أليست القراءة الأولى مقطوعة الصلة عن أي مفهوم يوحي بأمل النهوض باليقين، وكذلك النبوءات المتوافرة تغفل الحديث عن شكل من أشكال التجاذب بينهما.
إنها إشكالية الواقع، ومهما أعدت النظر في صوره وأحداثه وسلوكياته فإنه يرتد إليك بنار ورماد وبرد وسواد ورمل وجماد على قول الشاعر العارف، إنه واقع يجمع بين أشكال متفاوتة قد نلمس فيها وجهًا من التقارب وقد تتنافر وتتغاير في وجوه كثيرة، حتى يستحيل إدراك مظاهرها الخارجية فضلا عن استكناه أعماقها، وهذا يعني أن رؤية الشاعر ليست مجرد انطباع ذاتي تجاه العالم ومشاكله، بل هي أفحص وأعمق وتتجاوز الظاهر إلى ما هو أبعد، وما تلمسها للعلاقة بين الأشياء المتضادة بتكنيك يستند إلى مبدأ التجادل إلا وحي بذلك، ولاسيما تجادل الشك واليقين، فهو تجادل خطير يمكن من خلاله تفحص الأشياء وانحرافاتها وبناء أحكام تستند إلى وعي يحتم الإجابة عن تساؤلات تبحث في طبيعة الأشياء وحركاتها وسكناتها وما يطرأ عليها من تغييرات، وقد تأتي تلك الأحكام وفق رؤية تنسف الواقع برمته، أو تظهر سيئاته أو إيجابياته في سياق الفكر والوعي الذي يغرس القناعات أو يبدلها أو يعيد النظر فيها؛ ولذا تقوم عملية التجادل بين الشك واليقين في النص الشعري على قراءة أولى، إضافة إلى استنادها إلى مبدأ هام له فاعليته في الوعي الجمعي من حيث اتصاله بفكرة النبوءة، وقد أحسن الشاعر في استغلال ما تشع به هذه المفردة من قيمة معرفية وروحية تقترب من سلطة اليقين، وهو بذلك يجسد عملية التجادل بين الشك واليقين بشكل خفي في النص الشعري.
إذن فقد كان منطق الشاعر يترنح بين جدلية الشك واليقين، وعند قراءة ديوان «وعند الصباح لا يحمد القوم السرى» تتجلى الصورة أكثر، ففي نص «قصائد لفضاء الذات» (5) نجد عناوين فرعية تحمل مفردات موحية، منها مفردة «ظنون»،وهي جمع مفرده «الظن»، ويعرف الظن بأنه الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض وقيل :هو أحد طرفي الشك بصفة الرجحان، ويستعمل فى اليقين والشك، أما الشك فهو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك، بمعنى أن الشك في العلم يضع مبدأ الترجيح في منزلة ما بين المنزلتين، وفي هذه القصيدة لا يتجاوز الشاعر العارف في فلسفته لعلاقة الذات مع بعضها عن هذه المفاهيم، فهو مهما توسل بصور الواقع وأسئلته إلا أن لا يبرح الذات الموغلة في الظنون، وهذا ما ينعكس من النص الشعري «ظنون»، ومن ذلك قوله: (أرتق هذي الشقوق التي كشفت سترها!؟)، وقوله: (على الأرض الخراب!!)، والمثير أن آلية الربط تتكئ في كل مرة إلى عملية التجادل بين الشك واليقين، وتبرهن على أن وعي الشاعر ينطلق من معايير متباينة لا تغفل علاقته ومعاناته ومصيره في الأرض الخراب، وهذا جدير بالقراءة كونه يكشف عن كيفية الحضور والتصور في لحظة شك مطلقة، (أقلب فوق يد الشك شكي ..)، هكذا يعكس لنا السطر الشعري كيفية مواجهة الواقع وصوره في صيغة مكثفة وجدلية توحي بحالة من التوتر بين الذات والنظام السائد في الحياة، فالأرض في سياق يقينه خراب، وأي عطاء تمد به يدها يجسد جدلية الشك واليقين، ومن ثم فالوعي لا يتحرك إلا في سياق هذا المبدأ وكذلك الفكر؛ ولذا ليس من المصادفة أن يتحول جدل الشك إلى فلسفة تمارس فاعليتها بقوة في سياق النص الإبداعي، سواء في السياق اللغوي أم السياق الدلالي، تستوي في ذلك الممارسة في جزء من النص الشعري، أو في النص ككل؛ لأنها تأتي في ظل شروط تلتزم بها تجربة الشاعر وتتجانس في عملية التواصل، حتى وإن أوغلت في الاحتفاء بالشك ونفت أي معطى يمكن من خلاله تلمس اليقين، كما في نص «أصواتٌ من النَّصِّ المُسَجَّى» (6)، إذ تتكرر في سياقه لازمة نصية تثبت طغيان الشك المطلق على ذات الشاعر ووعيه الشعري، وخضوع العالم بأدرانه لسلطة طغيان الشك، إذ يقول: (1) بين عينيَّ رؤى سودٌ من النص المسجى..
وتعاريج من الهم المبرح...
وارتعاشاتُ خفوق..
لست أدري كيف أمحو هذه الأدران عني..
وعن عيني التي ما مسها الضوء..
ولم يكتب لها الصبح انبلاجا!!
قد تزداد لغة النص كثافة إن قلنا أنها متلبسة بتناص خفي يومئ بقصد أو دون قصد إلى فكرة قصيدة إيليا أبي ماضي المشهورة «لست أدري» التي أثارت ردة فعل عنيفة بفعل فلسفة الشك حول حقيقة الوجود من منظور عقدي، والتفاعل النصي في الغالب لا يعول على الوعي، وهو يأتي هنا في سياق عكسي من حيث المقصدية وفي سياق طردي من حيث تناغم تكرار اللازمة وإن بشكل محدود، أما من حيث المقصدية فإيليا يخضع سلطة الشك لتصور عقدي، أما الشاعر العارف فيقف على النقيض، فهو لا ينصاع لفكر عقدي مشوش ولا يمارس تصوره في واقع عقدي بالمطلق ونشير إلى ذلك لحساسية طرح الفكرة، وسد أية ثغرة قد يتسلل منها هواة التأويل وإنما يتفاعل مع ممارسات الواقع السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية في العالم بشكل عام، وهو من شأنه أن يخلق وعيًا وإدراكًا بممارسات الواقع وسماته. يتأكد ذلك من خلال استقراء النص، فالسواد يطبق على العينين كأن لم يمسها ضوء ولم تر انبلاج صبح، والهم له تعاريج على الرغم من أنه مبرح، كل هذه الأدران وسواها تنتج عن ممارسات اللحظة الزمنية المعاصرة، وتكون ماثلة في الوعي؛ ونتيجة طبيعية لتسلطها وتنامي حيويتها في نسج خيوط الألم واليأس والانهيار فقد انتفى عنصر اليقين بعد مجاهدة وجدل مرير مع عنصر الشك في وعي الشاعر وإدراكه، وجاءت قناعته مجلجلة (لست أدري كيف أمحو هذه الأدران عني..)، و (فالليالي لم تعد تلك الليالي) و (فالمعاني البيض لا تبدو بياضا) و (وأنا.../ موقن أن فرات القلب لا يجدي خطابه) و (لست أدري كيف لم تهم السحابة؟!). واليقين الذي أفصح عنه هو اليقين السالب/يقين الشك الناتج عن اتساع مجال ممارسة اللحظة الزمنية المعاصرة، والمطبق على كل إمكانات الأمل في قناعة الشاعر، على أن كثافة تلك الممارسات تأتي ضمن إستراتيجية يستحيل التفاؤل في حضرتها أو العيش في ظل منظوماتها، وقد جسد ذلك في خاتمة النص بأمنية مفزعة للغاية تكشف مدى الارتهان ليقين الشك وتتيح للقارئ فرصة الجزم بزخم النص وثرائه إعلاميًا ونقديًا وسياسيًا، يقول الشاعر العارف في خاتمة نصه الشعري: وعلى رمسك سجل: / ليتني ما كنت هذا ... / ليتني كنت نسيًا!!
هكذا يمارس يقين الشك فعاليته في الوعي الشعري لدى الشاعر، وقد منحت هذه الفعالية النص خصوصية يمكن من خلالها استيعاب أفق النص المعرفي والإدراكي والسياسي والاجتماعي وغيرها من المكونات التي تفرض مشاركة المتلقي والتجاوب مع ممارساتها الدلالية. معنى هذا أن جدلية الشك واليقين تطغى على فكر الشاعر العارف وشعوره وقد تجلت بوضوح في فضاء ديوانه موضوع القراءة، حتى أن خاتمة الديوان نصٌ جاء تحت عنوان (أتأبجد في الوهم وحيدًا) وهو من دون شك يبرز فكرة الديوان المحورية وهي فكرة جدلية الشك واليقين كخاتمة يدرك الوعي الشعري قيمة تمثلها وطرحها كخطاب أخير، بل إنه لم يكتف بإبرازها كعتبة نصية على الرغم ما لحضورها من دلالات واعتبارات تراعى في الدرس النقدي وإنما اتخذ منها لازمة نصية تتكرر في كل سياقات النصوص الشعرية الأربعة التي يجمعها العنوان نفسه، ويكون مكان حضورها إما في منتصف النص أو في خاتمته، وفي هذا الفعل إشارة كافية إلى قوة سلطة الوهم، والوهم هو الاعتقاد الخاطئ غير المتفق مع الواقع وصوره، ويشكل قناعة مطلقة لا تخضع لمبادئ العقل. وبعيدًا عن أسبابه فهو أخطر فاعلية وأثرًا من الشك؛ لأن كل حركاته وسكناته تبنى على الوهم، وكلاهما يمارسان وظيفة نفي اليقين الذي يعني طمأنينة النفس للحكم أو العلم/المعرفة دون أدنى شك في أنه الحق المبين، يقول الشاعر العارف في هذا النص (7):
أتأبجد في الوهم وحدي... / ووحدي أكون المدى.../ مترعًا بالهزائم
ويقول في خاتمة نص (3) كالسنابل...:
أتأبجد في الوهم وحدي...
ووحدي !!!
أكون المدى...
واقفًا..وجريح!!
هكذا يختزل الوعي الشعري الوهم في دفقة شعورية تحتفي به بثبات ويقين آحادي، فهو المدى الذي ينكفئ على تفاعل الداخل دون أن يسمح بتسرب لحظة الانتظار إلى الخارج وأبعاده، وما امتلاكه للجراح إلا حالة إقصاء مثيرة تعكس مدى رؤيته الشمولية وقناعته بعدم جدوى الارتباط بأي خيط يمكن أن يفسر له الواقع وتقلباته، وهو وإن كان يتوافق مع قناعاته، فإنه في الوقت نفسه يرصد حالة التعايش مع قانون وجود الحياة في ظل ممارسات ومتناقضات وهزائم تلغي إمكانية قابلية التحرك في لحظة حضورها العنيف.
ومن المفارقة أن الشاعر العارف يتوسل في بعض نصوصه الشعرية بالزمن الآتي لكن سرعان ما ينفي عنه امتلاك القدرة على التحرك بإيجابية، ومن ذلك نصه الشعري (غدا:يسبل الصحوة قامته!!)، الذي يهديه إلى أخيه د. عبد الرحمن، وفيه خمسة مقاطع تقع تحت مفردة «غدًا»، ونص آخر (امرأة من زبرجد.. أيقونة من حرير!!)، وهو إهداء إلى أخته عائشة، وفيه أربعة مقاطع تقع تحت مفردة «غدا»، ونعتقد أن الشاعر أراد إخفاء لباسه المطرز بالشك وأخواتها وإن استقر في ذهنه وروحه واستقام له إبداعيًا في حضرة أقرب الناس إلى نفسه وأحبهم، ولكن إرادته على الرغم من محاولته بث روح الأمل والاستبشار بالغد أبت إلا أن تستحضر الشك وتقف على صعيده شاء ذلك أم لم يشأ.
ومن المفارقة أيضًا أن لغة الشعر في الديوان تختصم بشكل لافت، فتارة تمتد لغة الروح والبياض والفجر والطهر، وتارة أخرى تطغى لغة السواد والليل والفراغ والألم واليأس، ويظهر ذلك بشكل مباشر من عناوين النصوص الشعرية، فثمة ستة عشر نصًا في الديوان منها ثمانية نصوص عناوينها تحمل بشكل مباشر فكرة القلق والألم والبكاء والإعصار والليل/السواد، على حين لا يوجد إلا نص واحد عنوانه يوحي بشكل مباشر بالسعادة وهو «احتفال»، ونص آخر يستجدي فيه أمل الغد، وتارة تتداخل لغة الروح والبياض مع لغة الجسد والسواد حتى تبدوا كأنهما مزيج من الثنائيات المتضادة والمتناقضة والمتخالفة، زد على ذلك مثول ظاهرة تكرار الأسئلة وعلامات التعجب والنقاط، وهي ظواهر تسوق النص الإبداعي إلى دائرة تعدد القراءات وتولد نواتج دلالية مراوغة لا تقبل اليقين، فيتحرك القارئ في قراءته حركة جدلية.
وأخيرًا لا بد من الاعتراف بأن تجربة الشاعر يوسف العارف الشعرية تمتلك إمكانية الرؤية والتكثيف والشفافية، ومع أن وجودها الظاهر يوحي بأنها سهلة الإدراك، إلا أنها في الحقيقة تأبى تسليم نفسها دون مراودة نقدية واعية، زد على ذلك أن أبعادها الموضوعية والفنية تستمد طاقاتها من روح الحياة وحركتها وأحوالها؛ ولذلك فهي قريبة في إشراقها ودلالاتها من ذهنية المتلقي وأحاسيسه، ونعتقد أن أنسب وصف ينسجم مع طبيعة هذه التجربة ويتناغم مع أبعادها، هو أنها تجربة سهلة ممتنعة لها حظ من الشاعرية وتتدفق بالمشاعر وتعزف عن الإغراق في الخيال، وهي لذلك كله وسواه تستحق بجدارة التفات النقاد إليها من أجل كشف رؤاها وأبعادها واستثارة طاقاتها الإبداعية.
-----------
هوامش:
(1) ثمة أعمال شعرية للشاعر يوسف حسن العارف مطبوعة منها: “الرمل ذاكرة.. والريح أسئلة!!”، و”كلما وقصائد أخرى”. “وعند الصباح لا يحمد القوم السرى”.
(2) وعند الصباح لا يحمد القوم السرى” ط1، 2008، د.ظ.
(3) الديوان، ص 22
(4) الديوان، ص 25
(5) الديوان، ص 31 ، 32
(6) الديوان، ص 57
(7) الديوان، ص 62


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.