«أنا مجموعة أفعال قدمها لي الناس، أولهم أهلي، صنعت وجمعت من خلال أفعال متعددة، كنت مع كل فعل أنمو قليلاً، وأعترف كثيرًا، ومن هذه الأفعال التي جمعت منها، تكوّن شيء اسمه عبده، كان حلمًا لأسرة صغيرة، وهو بداخله يحلم بعالم كبير، ليس عالما ليجلس من أجل أن يتلقى التهاني والتبريكات، أو من أجل أن يحتفى به، هو عالم لم يكتب دخل إلى داخلي، وإذا به ينفجر عن حيوات متعددة، كل حياة بحاجة لأن تكتب، وكما فعل معي الأصدقاء والأحباء، فعل معي الأعداء، أن أضافوا لي، ولم يهدموني، بل زادوني ارتفاعًا، كلما هوجمت استشعرت أنني قادر أن أعبر الطريق، ليس بحثًا عن مجد، ولكن لإخراج كثير من الشخصيات التي عاشت في داخلي، أو التي أرغب أن أخرجها من داخلي لتتحول إلى شخصيات روائية، كما أحس أن الشخصية الورقية تتحوّل مع الزمن إلى شخصية حقيقية واقعية نعيشها، وتتجسّد بحياتنا، عندما نتحدث عن جوربا لا نتحدث عن بطل رواية، نتحدث عن شخصية من لحم ودم، أو عندما نتحدث عن مصطفى سعيد كلها شخصيات تتحول لتلعب حضورها ووجودها في الزمان والمكان».. بهذه الكلمات عبّر الروائي عبده خال عن المكوّنات الأولى التي شكّلت شخصية في أمسية الاحتفاء به في منتدى الاثنينة على إثر فوز روايته «ترمي بشرر» بجائزة البوكر العربية.. ويمضي خال قائلاً: ربما كنت مسكونًا بأناس كثر، هؤلاء الناس، كل واحد منهم يشاغلني لكي يخرج إلى الورق، قال أحدهم: لو كتبت الرواية السعودية، سيكتبها عبده خال، تلقيت هذه المقالة وأنا عمري ثلاثة وعشرون عامًا، وظللت أكتب «الموت يمر من هنا» حتى أصدرتها وأنا عمري أربعة وثلاثون عامًا، ثم بعد ذلك تنظم النسل وأصبحت كل ثلاث سنوات، وكل سنتين أصدر روايتين. وكان عبده قد استهل كلمته بقوله: أعود بكم إلى سنوات مضت عندما هاتفني الشيخ عبدالمقصود محمد سعيد خوجه يخبرني في رغبته عن تكريمه عن مجموعة قصصية وروائية كان قد أنجزها لكنها إنجاز لم أكن أبحث لها عن قلادة لتوضع على صدري كنت ادعى من خارج البلدان وربما في أندية المملكة العربية السعودية، لكن أن يأتي صالون أدبي مثل الاثنينية لتكريمي يثير سؤالاً: لماذا تكرم هذا؟ ربما استشرف الشيخ أن هذا الفتى الناحل يمكنه أن يعبر الطريق، لكن كثيرًا من العيون كانت ترى أن هذا الفتى لا ينفع أصلاً أن يحضر أي مكان للتكريم. مختتمًا بقوله: أن تكون هنا ملفوفًا بهذه المشاعر وبهذه القلوب، يكفيك أن تخضر ما بقي لك من العمر، ولكنني سأستمع الدلالة، وأقول إنني أتيبّس بدونكم، فلا تحرموني من غيثكم، ولا أريد أكثر منن ذلك. عقل كبير وجرم صغير وسبقت كلمة المحتفى كلمة صاحب الاثنينية الخوجة أشار فيها إلى أن عبده خال «عقل كبير في جرم صغير.. فهو حبيب يفرض علينا حبه ومحبته.. هام بالناس.. أينما كانوا، وبكافة طوائفهم وسبل حياتهم.. بل كلما تفرقت بهم السبل كان متحفزًا للركض خلفهم بنظر ثاقب، وذاكرة فوتوغرافية تلتقط أدق التفاصيل، تدعمها لغة سلسلة سهلة ممتنعة، تجعل من الصور المخزونة في تلافيف ذاكرته نبضًا ينطق على الورق، فيتفاعل معه المتلقي بكثير من الدهشة، وتساؤلات تأخذ بزمام بعضها البعض». مضيفًا: قدره أن يلاحق الناس، يدس أنفه في خصوصياتهم، لا يردعه معنف أو متسائل أو مستغرب.. هكذا وجد نفسه محصورًا داخل جسده الذي لم يتح له أي خيارات أخرى، وأتحداه لو أنه حاول - مجرد محاولة - دخول حلبات الملاكمة، أو ملاعب التنس والغولف، ولا حتى كرة القدم بشعبيتها التي تعرفون.. هذا من ناحية المشاركة، أما المشاهدة فربما انزوى في ركن غرفته يتابع بملل مع التلفزيون، ثم ينتقل سريعًا إلى أي قناة فيها «حدوتة» - عشقة السرمدي - فقد نشأ وأمامه ورق، أي ورق، وقلم جائع، ومجتمع هو في الواقع كتاب مفتوح لمن أحسن قراءة سطوره وما بينها وما تحتها. وهو ما فعله اختيارًا وربما عنوة لامتناع البدائل، وبعد مسيرة ربع قرن اصطفاه مجتمع «الرواية» عام 2010م ليتربع على عرش «الجائزة العالمية للرواية العربية» أو «البوكر العربية»، التي تُدار بالشراكة مع جائزة «بوكر» البريطانية.. وهي أرفع جائزة في مجال الرواية بعد جائزة «نوبل». تكريم السمراء أما معالي الدكتور محمد عبده يماني فقال في كلمته: نحن لا نكرم شخصًا بذاته ولكن نكرم قصة نجاح وكفاح هذا الإنسان الذي نكرمه الليلة نشعر بأننا نكرم أنفسنا من خلاله، لكني لأول مرة أخالف العرف فأرى أن لا تدفع الجائزة لعبده خال ولكن لتلك السمراء التي من حقها أن تأخذ الجائزة، عبده خال أبدع ولكن هناك سمراء لها الفضل عليه وأعرف الأدوار التي قامت بها حتى قذفت إلينا بأكبادها وساقت إلينا عرسانها وفرحنا بعبده خال هذه السمراء هي جازان وأنا أناشده أن يقتسم الجائزة مع جازان. جماليات القبح أعقبه الدكتور سعيد السريحي بكلمة عاد فيها بالذاكرة إلى سبعة وعشرين عامًا خلت مع بداية عبده خال مع عالم السرد؛ إذ يقول السريحي: أستعيد معكم ذاكرة تعود إلى سبعة وعشرين عامًا حيث المكان عكاظ والزمان مصطفى إدريس أمامي كان فتى تقتحمه العين غير أن أسئلته القلقة كانت تقتحم القلب كذلك، مدّ لي مصطفى إدريس قصة قصيرة تتعثر كلماتها بين هفوات الإملاء حينًا وهفوات النحو حينًا آخر، وحين انتهيت من قراءتها أدركت أنني أمام نص يستشرف لغة لا تنتمي لأي اللغة سائدة وأدركت من خلال ما ترصده من ملامح الظلم والقبح ما يتشوق إليه الإنسان من عالم يتسم بالجمال والعدل، سألت مصطفى إدريس عن الكاتب فأشار إلى ذلك الفتى، وعدت اقرأ الاسم الذي ذيل به الكاتب قصته وكنت للمرة الأولى أقرا اسم عبده خال، الفتى الذي عرفت به متحدثًا باسم المهمشين والمنعزلين، عرفت مذ أول نص هذا الكاتب الذي يعري ما يقبع خلف الأقنعة البراقة التي نرتديها من قبح ونخفي خلفها العجز الذي يغطي به ظلم وتخلف الإنسانية التي تخبئ ظلمًا لا يرحم. مضيفًا: جماليات القبح التي يتأسس عليها الفعل الكتابي عند عبده خال هي التي حملت إليه المجد أو حملته إلى المجد غير أنها قبل أن تمنحها ذلك منحته عذابًا لا يزال يتلظى بما تبقى من ناره الموقدة. اليوم نشهد جهات تكرم عبده خال على ما منحه لهذا الوطن من فوز وقد شهدنا من قبل هذا الوطن وما من جهة فيه إلا وتشد عبده إلى الوثاق فيتعاقب عليه محققون في الليل والنهار لا ذنب له إلا أنه صرخ بنا ذات غفلة كم أنتم غارقون في مستنقع آسن بعد أن كدنا أن نجدل له من وعيه مشنقة. رسالة الفوز جميل فارسي اختصر كلمته في جملة من الملاحظات مشيرًا فيها إلى أن هذا الفوز وإن كان لعبده خال وباسمه، وتلقاء جهده إلا إنه فوز للأدب المحلي بشكل عام، مشيرًا كذلك إلى أن بساطة النظرية التي تقول إن الاستغراق في المحلية هو الطريق إلى العالمية ولكن ليس كل ملامسة للمحلية بل بالإحساس الذي كان لعبده خال في المجتمع المحلي والذوبان فيه، وثالث الملاحظات أن هذا الفوز فيه رسالة، وأن خال لم يكتب لينال جائزة بل كتب لإصلاح عيوب المجتمع وكان أمينًا مع نفسه صادقًا مع مجتمعه، ورأى بقلمه وكشف عن بعض معانات المجتمع. مخالفًا في خاتمة حديثه ما ناشد به الدكتور يماني خال باقتسام الجائزة مع جازان؛ حيث يقول فارسي: الجانب المادي من الجائزة وددت أن أوافق الدكتور محمد عبده يماني على مقترحه، لكن الحياة فيها بعض التهور، ومن التهور مخالفة رأي لمحمد عبده يماني لذلك أخالفه والملاحظة نحن نجتمع لنحتفل مع عبده خال بالجائزة، فلم لا نشاركه الجائزة نفسها فأقترح عليه توزيعها بعدالة على الجمهور، الجانب الآخر أن الحصول على جائزة مادية فيها رسالة لشبابنا بأن الحصول عليها يتطلب العمل وبذل الجهد في خدمة المجتمع أو الغيبوبة عن هذا فيحي أرضا يبيعها لإخوانه المواطنين، وعبده خال لم يحي أرضًا ولكنه أحيا ما هو أهم من ذلك. توصيفات خاطئة كذلك شاركت الدكتورة لمياء باعشن بكلمة قالت فيها: أسمع من يطلق على عبده خال اسم عبده بوكر وأعتقد أن من يعرف عبده خال بالبوكري فقد اخطأ ومن يظن أن عبده خال هو «ترمي بشرر» مخطئ أيضًا ومن يعتقد أن عبده خال هو رواية من رواياته أو مجموعة من رواياته فقد أخطأ لأن عبده خال هو تراكم مخزون من أشياء لا تعد ولا تحصى هو تلك القرية النائمة في ذاكرته وتلك الأزقة المدهوكة في خطواته وحكاياته، هو ذلك المطر ورذاذه وسحبه وجلبة الصبية والحواري الضيقة وهو الناس الذين مروا بدربه ومر بدروبهم وهو ذلك الإحساس اللاقط لكل شاردة وواردة وهو أيضًا الأتون المتوهج الذي يصهر ما يراه وما يقرأه. عبده خال هو ذلك المفكر المتأمل الذي يقبع خلف وأمام فوق رواياته كلها يتفحص أحوال السرد وحيواته ويطلق مقولاته الفلسفية بين طياتها، هو ذلك الحكيم الذي يدعو إلى تبصر المعاني الدفينة في أقواله «ثم تسوق عبارات من نصوص لعبده خال» «الغياب لا يعني الإلغاء نحن الذين نغيب الأشياء ونستحضرها وسرعة الضوء ثابتة فكيف نقيس متحركًا بثابت، الهواء الذي عبرك للتو أخذ شيئًا منك ليزرعه في مكان ما من هذا الكون، لا شيء يسقط للأعلى، الأعلى نقطة خارج المكان» هذه المقولات وغيرها تحدد بقوة عبده خال، وكل حرف يكتبه هو دليل على عقل واع يعتمل داخله بفكر واسع وعميق، الروايات ليست سردًا همه الحكي بل هي وسائل تحمل أطنان من التأملات والشذرات الفكرية. مداخلات وإجابات صريحة كذلك شهدت الأمسية العديد من المداخلات أبرزها ما أثير حول قضية الموسيقي المصري محمد رحيم ومقاضاته لعبده خال، الذي رد بقوله: بعدما أثير الموضوع طلبت كثير من الصحف ووسائل الإعلام أن نتحدث عنه كموقف، وقد قرأت للأستاذ الفنان الموسيقار محمد رحيم أنه لن يرتاح حتى يراني بين أسوار السجن وألبس رداء المساجين، وهذه الدعوات أنتظرها حتى ينتهي من مقاضاتي عبر القضاة. وفي رده عن سؤال حول فوزه بالجائزة وتغيير صورة المبدع السعودي يقول خال: أنا شخصية أقل بكثير من الرموز العظيمة التي تعيش في هذا البلد، مشكلتنا أننا لا نعترف برموزنا، لا نريد أن نصنع رموزنا في هذا البلد، بلد تبتر رموزها عنوة، هي تختار قتلاها، ولو قامت هذه البلد بتصدير رموزها فسترى المئات من هذه القامات العظيمة التي زرعت في كل جنبات حقول المعرفة، نحن ليس لدينا ثقافة تصدير الرموز، لدينا ثقافة قتل الرموز أو دفنها، البلد هذه تنتج عشرات العظماء، ولكنهم للأسف شبيهين بالنباتات التي يهال عليها تراب الصحراء مجتمعة. وحول سؤال عن الرقابة الإعلامية والنشر ومدى تأثير فوز رواية سعودية بجائزة البوكر العالمية في إحداث نقطة تحول في معايير الرقابة الإعلامية يجيب عبده: من يرتاد معرض الكتب بعرف أنه خلال فترة المعرض تجاز جميع الكتب، وبعد نهاية المعرض تسحب جميع الكتب، وحتى «ترمي بشرر» مر بنفس الشيء، لم يضف شيئًا جديدًا، سمحت في المعرض ثم سحبت بعد المعرض، إذا وجدت في أي مكان في المملكة العربية السعودية نسخة من «ترمي بشرر» فأنا أريد ثلاثمائة نسخة.