قبل بضعة أشهر؛ زارني وفد من محطة تلفزيونية تتبع الاتحاد الأوربي، وسألوني عن أشياء كثيرة حول الإسلام والعروبة والوطن..ثم حدثوني عن مشاهدات عاينوها واستغربوها، قالوا: لقد تغدينا اليوم في مطعم, وشاهدنا فتيات بالعباءة حين وصلن إلى طاولتهن تغير نمط سلوكهن، وصارت الضحكات تتعالى والشعور تتطاير والمعاكسات تتكرر، ثم بدأنا نستقبل منهن بلوتوثات إباحية بشكل مستمر..فبماذا تفسر هذا؟ قلت لهم: إن هذا يحدث، ولكن من الخطأ تعميمه، فثمّ كثيرون لديهم قيم ومبادئ؛ يؤمنون بها ويعملون بها في السر والعلانية.. بيد أن الملاحظة ذاتها واجهتني كثيراً في الطائرات المغادرة إلى دول أوربية، وفي مدنٍ عالمية وعربية جعلتني أتساءل: -هل نحن مجتمعات مرائية ؟ -وأبادر بالنفي؛ لأن التعميم مرّة أخرى خطأ وجناية وظلم، على أنني أعترف بأن عدداً غير قليل من رجالنا ونسائنا لا يعبرون عن أنفسهم ولا عن قناعاتهم، بقدر ما يعبرون عن مجاملة من حولهم بشيءٍ من التصنّع والتكلّف والتمظهر الذي يلغي استقلال الشخصية ووضوحها. إن الرقيب أو المندوب الاجتماعي في دواخلنا هو الأقوى سيطرة، والأشد إحكاماً، وفي حالات كثيرة يتغلب حتى على الرقيب الإيماني والقيمي فضلاً عن الرقيب النظامي. لقد كان من فضائل الإسلام العظيمة الحفاظ على الترابط الاجتماعي، وتكريس نظام الأسرة والوصية بالوالدين والأرحام والقرابة والجيران في عددٍ كبير من النصوص المحكمة، وهذه إحدى الضروريات الشرعية القطعية. وهي من ميزات التشريع الإسلامي، وقد ظلت قائمة حتى في أحلك الظروف. لكن حين تضعف التربية تتحول من تربية على القيم والقناعات الذاتية والإيمان بها والإخلاص لها، إلى تربية على (مظاهر) تلك القيم، حتى لو غابت القيم ذاتها ، فيتظاهر المرء بالصدق وهو كاذب، أو بالتدين وهو منافق، أو بالورع وهو جريء على حدود الله، وقد يمارس نوعاً من الاحتساب بحماسة على فعل قد لا يكون مقتنعاً بتحريمه أو بخطورته، لأن المجموعة التي يعيش معها ترى ذلك. قد يضرب الأب ابنه على ترك عبادة من العبادات, أو خلق من الأخلاق ويقهره على الامتثال، لأنه لا يريد أن يقال: ابن فلان فعل أو ترك، فينشأ الطفل كارهاً لهذا الخلق الذي تعرّض للضرب بسببه ، ولو مارسه ظاهرياً فهو يتحيّن الفرصة التي تسنح لكي يمارس حريته ورغبته في نقيض ما تربى عليه، ولا غرابة أن يبالغ في التشفي من ماضيه بالانغماس المفرط فيما حُرم منه سلفاً. الأب والمعلم أو الفقيه ليس شرطياً يملي على الأبناء والبنات, مهمته الأمر والنهي دون مراجعة ولا سؤال، وأولادك سيكبرون ويستقلون في بيوتهم، والمسؤول لن يدوم لهم.. وإن كان هذا لا يمنع أن يمارس دور الشرطي في حالة من الحالات. قلت لأبٍ غاضب يوماً: هدئ أعصابك، فلست أنت الذي خلقت هذا الولد، ولا أمه، الله خالقه ولو شاء لجبره على الهدى, ولكن ابتلاه ليؤمن من يؤمن ويكفر من يكفر. وكل من تراهم على ظهر هذه الأرض هم ذرية نبي معلم مكلم، هو آدم -عليه السلام-، وفيهم البر والفاجر والمؤمن والكافر والطيب والخبيث.. فلا تشمخ بأنفك وتقول: فلان بن فلان يفعل ويفعل؟ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).