عرف قراء التراث العربي حرص طلاب العلم النظري الأقدمين على تدبيج عبارات الإطراء ،وصفّ ألقاب الثناء على شيوخهم ومعلميهم في صدر مؤلفاتهم ،وخلع منظومة من الأوصاف قبل ذكر أسمائهم حتى غدت سمة لهم دون سواهم، ومن ذلك : حجة الإسلام،شيخ الإسلام،ناصر السنة،قامع البدعة،إمام أهل السنة،العالم المجدد،وغيرها كثير من ألقاب مستحقة ومبالغ فيها،ولعل إطلالة سريعة على مؤلفات ومؤلفي أسفار اللغة المعتمدة وكتب الفقه والأصول والحديث في عصور متقدمة تثبت صحة ما ذهبت إليه،ومن يقرأ هذه الألقاب يدرك أنها واقعية باعتبار عصرها، واعتداداً بمعيارية مطلقيها وحسن انتمائهم لأساتذتهم وعلمائهم ،ولا ريب أنهم محقون ولو نسبياً فعلماء العصور الأولى في الغالب موسوعيون إذ أنهم يتقنون أكثر من فن في حقبة واحدة حد إجادة الجميع. وأخشى أننا توارثنا هذا الولع بالألقاب حتى وإن لم نكن أهلاً لها،فنحن أحفاد خير من ركب المطايا،وأندى العالمين بطون راح،و تمتد أنسابنا إلى جذور عنصرية تبنت فكرة إذا بلغ الرضيع لنا فطاما،تخر له الجبابر ساجدينا،وإن أعرنا عابرا ذات مرة/ ذرى منبر صلى علينا وسلما، فلا غرابة أن تعلو نرجسيتنا ونفتتن بالمدائح، ونتعلق بحب الثناء باعتباره طبيعة الإنسان، فالبعض يرفض أن ينادى باسمه المجرد دون حشد عدد من الصفات والمؤهلات الحقيقية و الوهمية قبل وبعد،حتى وإن كان المُغرم نكرة من النكرات ،وصفراً في القوائم والخانات ،ونحن هنا نتحدث عن معايير العلم والمعرفة والمنجز الفكري والأدبي، أما قيمة الفرد بدينه وأخلاقه فتلك من اختصاص المزكين والملائكة الراصدة لأعمال الخلق. ولعل المتابع للثقافة الغربية يلحظ أن تلك المجتمعات خرجت من عقد النقص وتجاوزت قضية الألقاب، مستعيضة عنها بالتخصصية والمهارة في فن واحد من فنون الحياة ومجالات الإبداع والاشتغال عليه بمهارة وتراكمية تجعل من صاحبها علماً ومرجعاً في ذلك الفن دون التفات لما يمكن أن ينعته به محبوه ،أو يلصقه به شانئوه ،وبهذا تحقق على أيديهم للبشرية ما يؤهلهم للاصطفاف في سلم النافعين للخلق وخير الخلق أنفعهم،بينما غدا جل همنا التغني بأمجاد الماضين والتخبط في الوصول لحليّة ما يصلنا منهم أو حرمته، ولم يسلم من لوثة المدائحية حتى بعض علماء الطبيعيات والبيئة كونهم نتاج ثقافة تدّعي أن الأول لم يترك للآخر فناً ليدرسه، أو بابا ليطرقه، باستثناء بعض المهرة من أطباء ومخترعين يمكن حصرهم على أصابع اليدين. ومن مظاهر ما نحن بصدده لقب المشيخة الذي يتم صرفه لمن اصطنع مواصفات شكلية ،ومنها إطالة اللحية وتقصير الثوب،ووضع السواك بطريقة توحي بالزهد ما يدفع العوام للثقة في قول وفتاوى البعض بحكم ظاهرهم، وإطلاق لقب الشيخ بحكم أن هذه مواصفات العالم الشرعي،إضافة إلى ترحيل لقب المشيخة إلى أرباب المال ،وعرفاء ومعرفي القرى والقبائل،ورموز المهن شيخ الصاغة وشيخ السمكرية،وإن كان للمهنيين عرفهم المعتبر،أما هبة مشيخة الدين لكل أحد فتلك أزمة أخرى توقع في معمعة الضلال والإضلال، فالعبرة ليست بإطلاق الألقاب وتدبيج الأوصاف ،بل المعوّل عليه جوهر الإنسان لا شكلانيته و مظهريته، وإنما ينطق بالحكم على البضاعة والمنجز، ومن بضاعته مزجاة فكثير عليه إنجاء نفسه بعلمه الشرعي ومهارته. ولا تقل أوصاف وألقاب الأستذة،والسعدنة/والدكترة/والبشمنة/والشعرنة والسردنة/بحال عن ألقاب المشيخة ،فهناك هامشيون على هامش الحياة ،منحهم الحظ فرصة ظهور ،أو سانحة حضور،فتلقفتهم ألسنة المدّاحين لتنعتهم جوقة الوصوليين والتسلقيين بما ليس فيهم، ويطلقون عليهم مم يوحي بالمواهب من الأوصاف والألقاب المورطة ما يوحي بأنهم قدموا للبشرية خدمات وكشوفات أنقذتهم من التردي،وحمتهم من الهلاك ونقلتهم من التعاسة إلى السعادة،علماً بأن صعود أحدهم لمنبر أو مشاركته في برنامج أو تقديمه لورقة عمل يكشف عوار وضحالة ثقافته ولغته ،ومن حضر مؤتمر الأدباء مؤخراً تجلت له حقيقة الأدعياء . ولا يمكن أن نغفل أسباب مثل هذه الأزمة أو العقدة،متمثلة في طفراتنا المالية والمعرفية وما أنتجته من أضرار التنافس على الوجاهة والتورط بألقاب مجانية،و جانية على أصحابها ،وأوصاف واسعة على الموصوفين، إلا أنها لن تعدو مرحلة ، لتأتي عن قريب حقبة الغربلة والتصفية وإحقاق الحق لمستحقه من خلال منجزه المعرفي ونتاجه الفكري ما يضمن لصاحبه حقه في اللقب عن جدارة ليبقى ما ينفع الناس ويذهب جفاء الزبد،وصدق آباؤنا الأولون وهم يرددون ببساطة حين تمر بهم بهرجة»الدنيا بالوجيه والآخرة بالأعمال».