أوجه اللوم لكل من يعتبر نشر ثقافة الشأن العام ترفا فكريا، أوجهه لنا نحن المواطنين الذين نصمت عن حقوقنا تهدر ومالنا العام يسلب ولا نجأر بالشكوى ضد أي ظلم مع علمنا بوجود ملك عادل لا يرضي الظلم لشعبه لنترك الجهات المسئولة مباشرة عن كارثة جدة للجنة تقصي الحقائق تحاسبها، هناك جهات أخرى تستحق المناقشة وهناك سطور أخرى يمكن كتابتها علي دفتر هذه الكارثة المروعة... هيئة الرقابة والتحقيق، مثلا، أو ديوان المراقبة العامة، وهما من بدأنا نسعد بقراءة تقاريرهما السنوية عن مكافحة الفساد والتعدي على المال العام، ألم يلاحظ مسئولوها أي خلل في اعتماد ملايين سابقة ثم مليارات لاحقة على مشاريع لا تُرى بالعين المجردة؟ كم مرة أعلن أكثر من أمين سابق ولاحق لمدينة جدة عن مشاريع تصريف سيول تم استلام اعتماداتها، سواء من خلال الميزانية أم بمبالغ استثنائية مقطوعة من خزانة الدولة، تدعي أن الحل قادم خلال سنوات، ثم تمضي السنون ولا تظهر حلول بل مزيد من التعقيدات، فإن لم تكتمل المشاريع، وهذه آخر شماعات الإخفاق، فأين ذهبت الأموال ولماذا لم يتم تدويرها، وكيف يتم اعتماد مبالغ إضافية بدون بحث ما تم بخصوص السابقة؟ ذات السؤال يمكن توجيهه للمباحث الإدارية، ألم يلفت نظرها ضخامة ما يرصد من أموال وضآلة ما ينفذ، ألم تزكم أنوفهم روائح الفساد المتصاعدة من مشاريع يتم تنفيذها من الباطن ثم من باطن إلى باطن آخر، ألم يسمعوا عن بيع المشاريع بين كبار وصغار المقاولين؟ بل ألم يقرأ خبراؤها وخبراء هيئة الرقابة وديوان المراقبة تقارير منظمات الشفافية الدولية عن الفساد المنتشر في البر والبحر الذي وضع المملكة في المرتبة 80 من أصل 160 دولة، وأن حجمه بلغ أكثر من ثلاثة تريليونات ريال، أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي لثلاث سنوات قادمة وما يساوي ميزانية المملكة لثماني سنوات كاملة؟ تم رصد ذلك من منظمات تبعد آلاف الكيلومترات عنا، فلوثت بنشره سمعتنا، ولم ترصده منظماتنا الموكل إليها محاربة الفساد وإهدار المال العام والحفاظ علي سمعة البلد. وبعد نشره خارجيا هل تحركت منظماتنا المحلية للبحث عنه ومحاربته أم أن عقلية «ماكو أوامر» ما زالت مترسخة؟ فإذا كانت الأوامر معلنة من ولي الأمر منذ توليه الأمر، فما هو تفسير تقصير كهذا؟ لنتجاوز هؤلاء إلى ما هو أفدح ويتعلق بأرواح الناس، الدفاع المدني، مثلا، هذه المصلحة التي بت أعتقد أن اسمها أكبر من حجمها. بداية سأعذره بالقول أنه لا يتحمل تراكمات أخطاء غيره، وأن حجم الأمطار كان مفاجئا لمعظم أفراده لأن رؤساءهم لم يقرئوهم تواريخ سيول جدة ومدى خطورتها. بعد هذا أسأل هل لدى الدفاع المدني خطة لمواجهة الكوارث، فإن كان، لمَ نرى أن ما يبذله المواطنون يفوق ما يقدمه رجال الدفاع المدني حتى في أدنى حادثة، بغض النظر عن وصوله المتأخر دوما. الأعمال التطوعية البطولية المبكرة للأهالي دخلت الأحياء المنكوبة والمنازل الغارقة وأنقذت المئات من الموت جوعا أو غرقا أو بردا، بل غاص بعض الشباب وسط البرك منقذين غرقى كانوا على وشك الهلاك، بينما دفاعنا المدني لم تظهر مروحياته إلا ثاني أيام الكارثة وهي تحاول انتشال من تقع عليه العين، ثم ظهرت قواربه ثالث الأيام تجوب البرك والمستنقعات لانتشال الجثث ولو حضر مبكرا لأمكن إنقاذ الغرقى. هذا ليس من عندياتي بل ما جأر به شهود حال وضحايا مباشرة على وسائل الإعلام محليا وخارجيا ومما نشر على مواقع النت، ألم يكن بالإمكان استدعاء فرق أضافية من مدن أخرى قريبة لمضاعفة الجهد فبطؤه أمام مد الموت السريع ساهم في ارتفاع عدد الضحايا. رجال الشرطة والمرور، أيضا سأبرر ذهولهم في أول ساعات تكون السيول، لكن ماذا بعد ست ساعات، ماذا بعد نهار كامل، ماذا بعد يومين وثلاث؟ السيارات التي غرقت بمن فيها تمت سرقة ما فيها، البيوت التي تهدمت على أصحابها سرقت أيضا. على مدى أسبوع كامل كانت الأحياء المنكوبة مسرحا لعصابات نشطت في ظل غياب رجال الأمن، أما رجال المرور فحدث ولا حرج، تحدث كثيرون عن افتقاد وجودهم عند أي تقاطع. هل أعلن رجال الأمن والدفاع المدني منطقة جنوبجدة وشرقها منطقة منكوبة، هل تمت محاصرتها وإجلاء كل سكانها وكم عدد الجثث التي وجدت داخل المنازل؟ ولجان العون والإيواء هل بحثوا عن المنكوبين لإسعافهم أم أن هؤلاء الغلابى هم من كان يركض خلف هذه اللجان، ألم تظهر الصحف قول بعض المئويين أن ما قدم لهم كان ماء وبسكويت فقط، هل هذه خطة طوارئ تتعامل مع كارثة مهما كان حجمها، أم اكتفينا بنجاح تجارب ميدانية ننشرها كل يوم؟ كما ترون هناك جهات عدة يمكن توجيه أسئلة إليها، مجلس الشورى مثلا، طوال سنواته لم يسأل عن ضخامة الأموال المنفقة وضآلة المردود لأي جهة حكومية، جاء الآن بعض أعضائه يسأل عن الكارثة. هل يجب أن تحدث الكوارث أولا ثم ندعو المسئولين لنسألهم علي كأس شاي عن عوائق مشاريعهم؟ ومع ذلك فدور المجلس منتظر بعد ظهور نتائج لجنة التقصي، نتوقع أن تبدأ بعض الاستدعاءات المؤدية إلي نتائج، إن لم يكن عما مضى فليكن عما هو قادم. بودي أن لا أنهي حديثي قبل لوم الصحافة والإعلام عموما في تقصيرهم عن متابعة وتوثيق كل تصريح لأي مسئول ثم مواجهته به، هناك أرشيف كامل لكل هذه التصريحات المضللة، فمن المضلل هنا، من صرح كذبا أم من نشر كذبا؟ أخير أوجه اللوم لكل من يعتبر نشر ثقافة الشأن العام ترفا فكريا، أوجهه لنا نحن المواطنين الذين نصمت عن حقوقنا تهدر ومالنا العام يسلب ولا نجأر بالشكوى ضد أي ظلم مع علمنا بوجود ملك عادل لا يرضي الظلم لشعبه .