أثار المسلسل الدرامي «العاصوف» موجة من ردود الفعل المتباينة؛ بعض يشايع ما جاء في المسلسل، وما طرح في حلقاته من رؤى ومناظير، والبعض الآخر وقف على النقيض من ذلك بذريعة أنه ليس هنالك من داعٍ لنبش التاريخ، وإحياء الفتنة من مرقدها. وكان من أكثر المحتفين بحلقات المسلسل هم جيل من الشباب الصاعد، الذي لم يعاصر تلك الأحداث، التي لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، ولا يمكن أيضًا تجريدها من الأسباب المتراكمة التي أفضت إليها، سواء على المستوى الاجتماعي، أو الديني، أو السياسي.. فللتاريخ؛ يجب أن نقرّ بأن بعضًا من الإخوة الذين احتضناهم في ديارنا، وفي مؤسساتنا العلمية، وخصوصًا الجامعية منها، قد استغلوا هذه الأريحية، للترويج لما عرف فيما بعد ب»أدبيات الإسلام السياسي»، ومع أن الحرمين الشريفين كانا يعجّان في تلك الحقبة بكثير من العلماء العارفين، والمتمكنين في علوم الشريعة ومقاصدها؛ إلا أن بعضًا من أولئك الوافدين الذين أشرنا إليهم، عمدوا إلى إدارة رؤوس الشباب وتوجيهها إلى الاحتفاء بمضامين الكتب والمؤلفات التي ترسم منهجًا خفيًّا وخطيرًا، معترفين بأننا لم ندرك خطورة تلك الأيديولوجيا إلا متأخرًا؛ ذلك بسبب أن تلك الأفكار المطروحة كانت تتلبس بالدين زيفًا وخداعًا، مما أتاح لها الفرصة في التمدد داخل نسيج المجتمع بهذه الصفة المخاتلة، مستغلة الأشواق الدينية العارمة لدى المجتمع السعودي، وتدينه الفطري القائم على أسس متينة وراسخة في العلوم الإسلامية والعربية وسواهما، فتماهى أولئك البعض مع الخطاب الديني السائد، غير أنهم في الخفاء كان يدسون السم في الدسم، ويحرفون بوصلة المجتمع المسالم والمتصالح مع الحياة وفقًا لموجهاته الدينية الراسخة، فبذروا بذورهم المخالفة لروح المجتمع، ووجدت تلك البذور الشيطانية مكانًا في قلوب البعض، فنمت وتمددت فيما بعد. وكانت أولى الانعطافات التي شهدها المجتمع الحديث بروز مصطلحات أيديولوجية حول مفهوم الحكومة الإسلامية، والدولة الإسلامية، مما يبرهن أنها مصطلحات وافدة، لتجد طريقًا لها إلى مجتمع متصالح مع نفسه وولاة أمره.. ثم أضحى الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة تكفير المجتمع، كما هو موجود في بعض المؤلفات التي انتشرت بصورة مدهشة، وأصبح صغار الشباب ينظرون إلى سلوكيات آبائهم وأمهاتهم بكثير من الشك والارتياب، الذي انتقل فيما بعد إلى الانتقاد المباشر، بصورة تماثل ما جرى في مجتمعات أخرى، وهو ما أحدث الصدام بين فئتين في المجتمع.. ونضرب مثلاً يدلل على ذلك التصادم أن بعضًا من الشباب، ممن انخرطوا في سلك هذا المنهج الخفي، كانوا يسألون منظريهم عن مسائل الغناء، والتمثيل، والمسرح، والأدوات الحديثة مثل التلفزيون، فظهرت موجة من الفتاوى الشاذة، وغير الرسمية، بتحريم هذه المناشط، وعليه جاءت المرحلة الأخرى، وتمثلت في هجر الشباب لمنازلهم، وممارسة العقوق في أقبح صوره بتجاهل والديهم، ورميهما بالكفر والخروج عن تعاليم الدين.. ولا ننسى موقف تلك الحركات ومشايعيها من الآثار المرتبطة بأحداث إسلامية صحيحة وثابتة، فجاء التحذير منها، ومن زيارتها والاقتراب منها، بحجة أنها توفر بيئة تمارس فيها أشكال من الشرك والعبادة لغير الله!، وكانت محصلة هذه المفاهيم الخطيرة والمفارقة لرأي جماعة المسلمين على مدى التاريخ، أننا فقدنا آثارًا كان حريًا بنا المحافظة عليها وصونها.. إن كل هذه الأحداث المتراكمة، والأفكار الملغومة التي انتشرت في المجتمع، مهدت السبيل لظهور جهيمان وجماعته، الذين بلغت بهم الجرأة مبالغَ بعيدة باستحلال بيت الله الحرام، وترويع الآمنين والمصلين، وهو ما صوره هذا المسلسل «العاصوف» في سياق حلقاته، بما رفع من أهميته ونسبة مشاهدته بين كافة قطاعات المجتمع، وأحدث هذا الحراك الفكري والنقاش حوله في الساحة، وأيًا كان الرأي فيه، وفي ما طرح، فالمتفق عليه أنه أثار الأسئلة، وفتح النوافذ للبحث والتنقيب، بما يكشف عن أهمية الدراما في حياتنا اليوم، وأنها لم تعد ترفًا ووسيلة لاستدرار الضحك والتسلية، بل أصبحت وسيلة مهمة لتمرير الأفكار، وتثبيت المفاهيم، بما يتوجب علينا أن نوليها الاهتمام الأكبر، ونخرج بها من دائرة الموسمية إلى الفعل المستمر، فهناك الكثير من القضايا والأحداث والمشاهد في تاريخنا تحتاج إلى فعل درامي جاد يرسخها في قلوب الناشئة، بخاصة وأن الناس قد ابتعدوا عن القراءة، فلعل الدراما تكون لهم بديلاً لاكتساب المعرفة بوصفها وسيلة جذابة ومشوقة بخاصة لدى قطاع الشباب.