جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. قد يقع المسلم في بعض المعاصي، لكن البلاء الأكبر أن يصبح خائناً، فالمؤمن لا يخون؛ لما في الخيانة من نقض للعهد، وتضييع للأمانات، وتدمير للحياة الإنسانية للفرد والمجتمع والأمة. ونظراً لعظم قباحة هذا الفعل وأضراره، كان للإسلام موقفه الواضح، فلم يهادن الخائنين، بل توعدهم بما توعد به المنافقين والمشركين. لكن ما هي الخيانة وصفات الخائن، وما يترتب على سلوك الخائن من أضرار، وكيف تصدى الإسلام لهذا السلوك وقايةً وعلاجاً؟ في البداية يؤكد د. إبراهيم بن ناصر الحمود، الأستاذ المشارك بالمعهد العالي للقضاء بالرياض، أنه لا يكفي وصف الخيانة بأنها سلوك خاطئ، وإنما هي أعظم من ذلك، فهي تعد من الجرائم الخلقية التي نهى الله عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }. والخيانة تعني عدم القيام بواجب الأمانة، والأمانة لفظ شامل يشمل جميع الأوامر والنواهي، فجميع التكاليف الشرعية أمانة، والإخلال بشيء منها خيانة في الدين، وجميع الحقوق الشرعية للنفس وللغير أمانة، والإخلال بشيء منها خيانة للفرد والمجتمع، وهل هناك أعظم من الأمانة؟! لما عرضت على السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، هذا المخلوق الضعيف الذي وصفه الله بقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. ومما يدل على خطر الخيانة وعظم شأنها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعلها شعبة وعلامة من شعب وعلامات النفاق، كما جاء في حديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). ومتى دب داء الخيانة في مجتمع فهو عنوان هلاكه، وهلاك مقدراته. كما أن الخيانة تعني نقض العهود والمواثيق التي أمر الله بالوفاء بها، كما جاء في قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}، وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}. فقد الثقة بالإنسان ويضيف د. الحمود: ومن أشد أنواع الخيانة خيانة المسلم لدينه، ثم لوطنه، ثم لولاة أمره، ثم لأمته بوجه عام، فأحد هذه الأنواع كاف لهلاك أمة بكاملها. ومما يدل على خطر وعظم الخيانة أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن مقابلة الخيانة بخيانة مثلها، فقال عليه الصلاة والسلام: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن مَن خانك). فالداء لا يكون علاجاً بمثله، وإنما على المسلم أن يقابل الإساءة بالإحسان، {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن). وللخيانة أثر على حياة الفرد الخاصة والعامة، وعلى المجتمع بأكمله، فهي تفقد الثقة في الإنسان، وتخل بعدالته؛ مما يجعله منبوذاً في المجتمع، فيعيش في عزلة تامة. وحين يشتهر إنسان ما بين الناس بهذا الخلق المذموم لا يأمنه الناس على ممتلكاتهم، ولا على أسرارهم. ومجتمع تخيم الخيانة على بعض أفراده يكون مصاباً بالشلل في شتى شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فمن آفاتها على الحياة الاجتماعية أنَّ مَن اتصف بالخيانة لا يرضى أحد بتزويجه؛ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إن لم تفعلوا يكن فساد كبير)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن الخيانة علامة على ضعف الإيمان وسيئ الأخلاق. ويتساءل د. الحمود: فهل هناك أعظم من أن المسلم يحرم من الذرية الطيبة والأسرة التي تملأ عليه حياته بسبب خيانته للأمانة؟! فالأمانة مغنم، والخيانة مغرم، كما أن خائن الأمانة لا يؤتمن على أموال الناس، فيفقد حظه من التجارة الرابحة، وهذا له أكثر كبير على الحالة الاقتصادية، فحين لا يثق الناس بعضهم ببعض، ومعلوم أن التجارة عامل مهم لازدهار الحالة الاقتصادية في كل مجتمع، وهي تقوم على أساس التعاون والمشاركة بين التجار، فمتى اتصف بعضهم بالخيانة فهذا مؤذن بتدهور الحالة الاقتصادية، كما أن خيانة العامل في عمله والموظف في وظيفته، سواء بالتقصير في الأداء أو الاختلاس أو نحو ذلك من الأخلاق السيئة، له أثر سلبي على مقدرات ومصالح الوطن. وهذا مشاهد وملموس في حال مَن اتصف بهذه الصفة، وما تؤول إليه حاله بعد ذلك حين تكف يده عن العمل ويشتهر بخيانته، فيكون قد جنى على نفسه وعلى مجتمعه، {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}، وفي الحديث: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة). داء الخيانة من جانبه يطرح د. إبراهيم الجوير، أستاذ علم الاجتماع بكلية العلوم الاجتماعية بالرياض، الأسباب المؤدية إلى داء الخيانة، فيقول: إذا أردنا أن نتحدث عن العوامل المرتبطة بالخيانة، فيأتي في مقدمتها ضعف الوازع الديني، والقدوة السيئة، فإذا وجدت القدوة الخائنة في أي مجتمع من المجتمعات وهذه القدوة من القدوات المهمة، وكان هذا من العوامل التي تجذب أو توصل موضوع الخيانة، وأنه هذا هو الطريق الطبيعي في المجتمع. ومن ضمن ذلك أيضا السلوك الاستهلاكي والتفاخري عندما يتحول المجتمع إلى مجتمع يتنافس فيه الأفراد على المظاهر الكاذبة والخادعة في الأساس، والمسكن، والملبس، والمركب، والحفلات، والمناسبات، وغيرها، فإن هذا يعني أن يصرف الإنسان مصروفات أكثر من إمكانية الدخل عنده، وبالتالي قد يسعى للحصول على مداخيل أخرى يكون بعضها من مداخل الخيانة. ومن أسباب خيانة الأمانة أيضاً عدم المحاسبة الدقيقة للناس من حيث السؤال: من أين لك هذا؟ فهذا يسهل لهم مسألة الخيانة، وكذلك إذا لم يوجد العدل أو وجدت المحسوبية فإنها تسهل الخيانة؛ لأن مَن أتى عن طريق المحسوبية أو غيرها سيجد أن له حماية وله مبررات لعدم الأمانة ولعدم العدل. ويضيف د. الجوير: وإذا أردنا أن نعالج وجود الخيانة في المجتمع فلا بد أن نعرف العوامل المرتبطة بوجود هذه الخيانة لأن نعالجها ونقومها، فإذا قلنا: إن هذه العوامل التي ذُكرت هي من العوامل التي تؤدي إلى الخيانة فينبغي أن نعالج هذه العوامل وأن نحد منها، وأن نوجد الظروف المناسبة من العدل والحزم والحكمة والمساواة والمحاسبة والقدوة الحسنة والسلوك المتميز والتربية الإيمانية الصادقة لبناء المجتمع بناءً صحيحاً يمنع من الخيانة. أما آثار الخيانة فهي تنخر في المجتمع، فلا نستطيع أن نرى تعليماً صحيحاً، ولا تقويماً صحيحاً، ولا مشروعات دقيقة، ولا مشروعات تُنفَّذ بدقة وبأمانة وبإخلاص وبأسعار مناسبة وبشمولية وعدل إذا تمت فيها الخيانة، أما إذا تمت فيها الأمانة فإننا نرى تعليماً متقدماً، نرى سلوكاً متميزاً، ونرى مشروعات نُفِّذت تنفيذاً صحيحاً بأسعار معقولة وباستفادة كاملة، مع مراعاة أن الخيانة أو الأمانة لا تختصر في ناحية دون ناحية، وإنما الأمانة تشمل كل شيء، والخيانة قد تدخل فتنخر في كل شيء، وقد يكون للإنسان سلوكيات خاطئة، ولكن البلاء الأكبر يأتي عندما يصبح الإنسان خائناً - والعياذ بالله- فالخيانة نقض للعهود والمواثيق، وتحطيم للأمانات، وهي التي تدمر الحياة الإنسانية للفرد والمجتمع والأمة. ولكل هذا فإن الإسلام لم يهادن الخائنين على الإطلاق، بل كان له رأيه القاطع بحالتهم. دوافع الخيانة أما فضيلة الدكتور إبراهيم بن صالح الخضيري، القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض، فيقول: الخيانة أنواع، فهناك خيانة في الدين، وهناك خيانة في العرض، وهناك خيانة في المال، وكلها بكل ألوانها وأنواعها محرمة؛ لقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، وبدليل ما ذكره ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تمثل الأمانة للرجل الذي ضيعها في نار جهنم، ثم يحملها من قعر النار فيصعد بها، حتى إذا وشك أن يخرج انزلقت منه، ثم تبعها هاوياً في نار جهنم)، وهكذا إلى أن يحكم الله بين عباده يعذب بها ما شاء الله عز وجل، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا دلالة قاطعة على أن الخيانة من أخطر الأمور، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث)، وذكر منها: (وإذا اؤتمن خان). ومعلوم قول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}. فالخيانة بكل أشكالها محرمة، ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية لإبعاد الناس عن الخيانة، وطردهم عنها ومحاولة إبعادهم حتى عن أجوائها ودوافعها. وفيما يتعلق بدوافع الخيانة، يضيف د. الخضيري: الدوافع التي تدفع للخيانة من أبرزها المال والفقر والظلم، ولذلك حرم الله الظلم، وأمر جل وعلا بمساعدة الفقراء وإعانتهم من خلال فرضه للزكاة والصدقات والكفارات وغيرها من الأمور المشروعة التي يدعو فيها الإسلام المسلمين إلى إعانة المحتاجين والمعوزين والفقراء والمساكين لنفعهم وإبعادهم عن الخيانة. والحياة الزوجية فإن الله جل وعلا حمى سياجها من كل وجه ضد الخيانة، فقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، وقال: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، ونهى جل وعلا عن مخاطبة النساء بلين القول أو الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، وشرع الحجاب، وأمر بالعفة، ودعا للنكاح وحث عليه، كل هذا لتبعد الأمة الإسلامية عن الخيانات الزوجية، ثم دعا الزوج ليؤدي حقوقه، قال سبحانه: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فنظم حتى عملية تطليق الزوج لزوجته لخطورتها ولشدتها إذا لم يقم بعملية الجماع التي هي مقصد أسمى من مقاصد النكاح. ولا ريب أيضاً أن هذه الشريعة الإسلامية دعت على نبذ كل ما يدعو إلى الخيانة وإبعاده وطرده؛ حتى يكون المؤمن على ثقة بالله عز وجل، وعلى قوته، وتعلق بالواحد الأحد لنصرة الإسلام، والدفاع عن المسلمين، ولذلك شرع الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنبذ الخيانة، وشرع الله الحدود، حد الزنا، حد الزاني المحصن وحد الزاني البكر؛ لينبذ الخيانة من كل وجوهها، ولتبتعد الأمة عن كل خيانة وشر وبلاء وفتنة. التلاعب بالوثائق أما الشيخ فيصل بن رميح الرميح، عضو الدعوة بقاعدة الرياض الجوية، فيقول: الإيمان والخيانة ضدان لا يجتمعان، إذ لا إيمان لمن لا أمانة له، وأن المؤمن ليطبع على كل خلق إلا الخيانة والكذب، أما المنافق فآيته وعلامته أنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، فالخيانة غدر وخسة ودناءة وفضيحة، (لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان). وهي تتنافى مع أخلاق المسلم، والخيانة تنكرها الفطر، وتمجها الطبيعة السوية، إن الله لا يحب الخائنين، ولا يهدي كيد الخائنين، ولا يحب كل خوان كفور، ولا يحب من كان خواناً أثيماً. وفي الحديث: (إن أول ما يفقد من الدين الأمانة، فترفع من القلوب، حتى يصير الرجل خائناً بعد أن كان أميناً). وفي صحيح البخاري من حديث حذيفة: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت. ثم ينام النومة فتقبض ويبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعلقه، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان). وقد جاء في الآثار: (لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء فيه جليسه). وحينها ينقطع المعروف بين الناس، وتذوب المروءات مخافة الغدر والخيانة. ولقد كان أسوتنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الخيانة، فها هو لما كان يوم فتح مكة، واختبأ عبدالله بن سعد بن أبي السرح، وجاء به عثمان حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى أن يبايعه، فبايعه، ثم أقبل على أصحابه فقال: (ما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك؟ ألا أومأت إلينا بعينيك؟ قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين). ويضيف الشيخ الرميح: إن مفهوم الأمانة والخيانة أشمل مما يعرفه كثير من الناس من رد الودائع والأمانات، فأعظم الخيانة خيانة الدين {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}، قال ابن عباس: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما. وفي الحديث: (لأعلمن أقواماً يأتون يوم القيامة بأعمال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثوراً، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). ومن أعظم الخيانة خيانة نبي الإسلام من تقديم قول غيره على قوله، وترك سنته وزعزعة الناس عن اتباعه، واستبدالها بمناهج وأفكار ضالة، والطعن فيها روايةً أو درايةً، أو الطعن في حملتها صحابةً كانوا أو ممن بعدهم من حملة الشريعة، كل ذلك خيانة للرسول صلى الله عليه وسلم. وكذا خيانة الأمة بأن يكون مطيةً لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد، أو دليلاً لهم على عوراتها، كما دل أبو رغال أبرهة على طريق مكة، وفي الطريق مات أبو رغال فرجمت العرب قبره. فهو قبره الذي يكان يرجم بالمغمس. وكذا ابن العلقمي؛ فقد كان دليلاً لهولاكو في تدمير دولة الإسلام. ومن الخيانة أيضاً هتك عوراة المسلمين، قال ابن عباس: إن الرجل ليدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء، فإذا غفلوا نظر إليها، وإذا فطنوا غض بصره. لقد كان أهل الجاهلية يعدون غض الطرف من مكارم الأخلاق، حتى صور أحدهم حاله مع محارم جاره، فقال: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها ومن الخيانة تتبع ما فيهم من العيوب ونشرها بين الناس، ومن ذلك ما يكون بين الزوجين من أسرار وعيوب، قال صلى الله عليه وسلم: (لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها، فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون). وقال عليه الصلاة والسلام: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها). كما أن المجالس بالأمانات، فإفشاء السر خيانة، حدَّث جابر يرفعه: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة). من الخيانة التلاعب بالوثائق والشهادة إذا ائتمن الإنسان على السجلات ونحوها. ولذلك فإن الخيانة سوء في الباطن، ذهاب للإيمان، وإذا كمل الإيمان كملت الأمانة، وإذا ضاعت الأمانة سفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وأكلت الأموال بالباطل. إذا ضيعت الأمانة وفشت الخيانة فلا حياة طيبة سعيدة. خصال المنافقين ويقول الشيخ صالح بن إبراهيم الدسيماني، مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية بنجران: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }. والرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالأمانة، وحذر من الخيانة، وأخبر أن الخيانة من خصال المنافقين؛ حيث قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه. كما أخبر عليه الصلاة والسلام أن الخيانة وإضاعة الأمانة دليل على قرب الساعة عندما قال: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة). وأعظم أنواع الخيانة خيانة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وذلك بالكفر أو الشرك أو المعاصي بأنواعها، فهذه خيانة لأمانة الاستخلاف في الأرض، فالله خلقنا واستخلفنا في هذه الأرض لعبادته وطاعته وطاعة رسوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}. ومن صور الخيانة ما يحصل في مجتمعاتنا اليوم من عدم الوفاء بالعقود التي تبرم بين الناس بأنواعها وأشكالها، فعقد الزواج مثلاً يجب الوفاء به وما فيه من شروط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن أولى الشروط ما استحلت به الفروج. إلا أنه للأسف نجد بعض الأزواج يوافق على الشروط في العقد، فإذا صارت المرأة المسكينة في بيته ظلمها وأخذ يماطل في الوفاء بهذه الشروط، وهذا من الخيانة. كذلك الوفاء بالعقود مع العمال، فكثير من الناس يحمله حب المال على الخيانة، فيجلب العامل من بلده بعقد ومرتب محدد، فإذا جاء هذا الضعيف من بلده وتحمل الديون والمشاق بدأ صاحب العمل يماطل في راتبه وحقوقه، ثم يقول: إنه وافق على المرتب الذي عرض عليه، ولو كان له حرية الاختيار لما وافق، ولكنه مكره وليس له خيار آخر إلا أن يقبل ما يعرض عليه ويدعو الله على هذا الظالم الخائن. فعلى أرباب العمل أن يتقوا الله تعالى، فوالله ما نزعت البركة في الأموال والأولاد والأوقات إلا بسبب هؤلاء الخونة، ويكفي رادعاً لهؤلاء أن خصمهم الله تعالى كما في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره) رواه البخاري. ويضيف الشيخ الدسيماني: ومن الخيانة أيضاً خيانة ولي الأمر الذي اتفق عليه أهل الحل والعقد، فقد روى مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خلق يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية). ومن الخيانة أيضاً ما يقع من قتل للآمنين وترويع لهم، حتى ولو كانوا غير مسلمين، ما داموا قد دخلوا بلاد المسلمين بعقد وعهد وميثاق فلهم ما للمسلم وعليهم ما عليهم، فلا يجوز قتلهم حتى ولو خانوا هم إلا بعد إخبارهم والتوضيح لهم، ولا يكون ذلك لآحاد المسلمين، بل هو لولي الأمر كما قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ }. فالخيانة إذا أعمت المجتمع كان لها عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع، فينعدم الأمن وتنتشر الجريمة، وتتعطل بذلك كثير من الأعمال الصالحة من صلاة ودعوة وعلم وبر وغيرها، ويحل بدلاً عن ذلك الفوضى والجهل والقتل. لذا فالواجب على الجميع أن يقوموا بواجب الأمانة العظيم، ويؤدي كل واحد ما عليه من حقوق وواجبات، ويصبر ويتحمل الأذى من إخوانه، ويقتدي بخير البشر صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يبذل الخير للغير، وصبر على جميع ما تعرض له من أذية في طريق دعوته إلى الله، ولم يخن مَن خانه، ولنا فيه الأسوة الحسنة في كل قول وعمل.
