امطار خفيفة الى متوسطة وغزيرة في عدة مناطق بالمملكة    الاتحاد الأوروبي يؤكد أن الحرب على قطاع غزة تزداد خطورة يومًا بعد آخر    ترمب يوقّع أمرًا تنفيذيًا بتمديد هدنة الرسوم مع الصين 90 يومًا أخرى    المنتخب السعودي الأول لكرة السلة يودّع بطولة كأس آسيا    الشعب السعودي.. تلاحم لا يهزم    السعودية ترحب بالإجماع الدولي على حل الدولتين.. أستراليا تعلن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين    وزير لبناني حليف لحزب الله: أولويتنا حصر السلاح بيد الدولة    عشرات القتلى بينهم صحافيون.. مجازر إسرائيلية جديدة في غزة    موجز    بحث مع ملك الأردن تطورات الأوضاع في فلسطين.. ولي العهد يجدد إدانة المملكة لممارسات الاحتلال الوحشية    بعد خسارة الدرع الخيرية.. سلوت يعترف بحاجة ليفربول للتحسن    برشلونة يسحق كومو ويحرز كأس غامبر    تعزيز الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد للمملكة.. "سالك".. 13 استثماراً إستراتيجياً في قارات العالم    ضبط 17 مخالفًا بحوزتهم 416 كلجم من القات    السنة التأهيلية.. فرصة قبول متاحة    افتتاح معرض الرياض للكتاب أكتوبر المقبل    «ترحال» يجمع المواهب السعودية والعالمية    «الزرفة» السعودي يتصدر شباك التذاكر    مباهاة    المفتي يستعرض أعمال «الصاعقة» في إدارة الأزمات    حقنة خلايا مناعية تعالج «الأمراض المستعصية»    الحكومة اليمنية تمنع التعاملات والعقود التجارية والمالية بالعملة الأجنبية    جني الثمار    "فهد بن جلوي"يترأس وفد المملكة في عمومية البارالمبي الآسيوي    القيادة تهنئ رئيس تشاد بذكرى بلاده    بطولة الماسترز للسنوكر.. أرقام استثنائية وإشادات عالمية بالتنظيم    7.2 مليارات ريال قيمة اكتتابات السعودية خلال 90 يوما    تمويل جديد لدعم موسم صرام التمور    ثقب أسود هائل يدهش العلماء    مخلوق نادر يظهر مجددا    تحديات وإصلاحات GPT-5    232 مليار ريال قيمة صفقات الاندماج والاستحواذ    نائب أمير الرياض يستقبل سفير إندونيسيا    «محمية عبدالعزيز بن محمد».. استعادة المراعي وتعزيز التنوع    تخصيص خطبة الجمعة عن بر الوالدين    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    أخطاء تحول الشاي إلى سم    لجنة التحكيم بمسابقة الملك عبدالعزيز تستمع لتلاوات 18 متسابقًا    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025| الهولندي ManuBachoore يحرز لقب EA SportFC 25    340 طالبا وطالبة مستفيدون من برنامج الحقيبة المدرسية بالمزاحمية    إنقاذ مقيمة عشرينية باستئصال ورم نادر من فكها بالخرج    فريق طبي سعودي يجري أول زراعة لغرسة قوقعة صناعية ذكية    ملتقى أقرأ الإثرائي يستعرض أدوات الذكاء الاصطناعي وفن المناظرة    أخصائي نفسي: نكد الزوجة يدفع الزوج لزيادة ساعات العمل 15%    بدء استقبال الترشيحات لجائزة مكة للتميز في دورتها السابعة عشرة    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة قاع الثور    أمير تبوك يستقبل المواطن ناصر البلوي الذي تنازل عن قاتل ابنه لوجه الله تعالى    سعود بن بندر يستقبل مدير فرع رئاسة الإفتاء في الشرقية    النيابة العامة: رقابة وتفتيش على السجون ودور التوقيف    إطلاق مبادرة نقل المتوفين من وإلى بريدة مجاناً    طلبة «موهبة» يشاركون في أولمبياد المواصفات الدولي    البدير يشارك في حفل مسابقة ماليزيا للقرآن الكريم    «منارة العلا» ترصد عجائب الفضاء    منى العجمي.. ثاني امرأة في منصب المتحدث باسم التعليم    مجمع الملك عبدالله الطبي ينجح في استئصال ورم نادر عالي الخطورة أسفل قلب مريض بجدة    نائب أمير جازان يزور نادي منسوبي وزارة الداخلية في المنطقة    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسلمون في إيطاليا.. ل«ستيفانو أَليافي»
من مآثر مدينة مزارا الإسلامية في صقلية
نشر في الجزيرة يوم 08 - 05 - 2020


-1 صقلية .. عوداً على بدء
تبدو الانطلاقة من صقلية ضرورية للحديث عن الإسلام في إيطاليا، وبشكل ما «وُلِدت» صقلية مع الإسلام، أو بالأحرى مع العرب، الذين منحوا الجزيرة تاريخًا وفخرًا، ثراءً ماديًا وفنيّا خارقين، بالتأكيد ليس أقلّ قيمة مما خلّفه الإغريق من آثار. كما لاحظ الكاتب ليوناردو شاشا، «بدون شكّ بدأ سكان جزيرة صقلية يسلكون مسلك الصقليّين بعد الفتح العربيّ». سابقاً، وفي العموم كانت الأوضاع فاقعة، على الأقل كما يصفها المؤرخ ميكيله أماري: «صارت صقلية بيزنطية في الداخل والخارج؛ اختلّت جرّاء الداء الذي أَلمّ بالإمبراطورية السائرة في طريق السقوط؛ منشغلة بأوضاعها البائسة، لا يروعها الفتح الإسلامي الذي هزّها وجدّدها». بقيت آثار الفاتحين العرب المسلمين في العوائد، في اللغة، في أصول الكلمات، في الحضارة المادية: إنهما قرنان من السيطرة، فضلاً عن التأثير الثقافي الواسع جرّاء انفتاح بلاط النورمان على المساهمات العربية، التي لم تذهب سدى.
فإيطاليا لا تماثلها منطقة أخرى من حيث تأثير الإسلام التاريخي، وبالحدّة نفسها للإسلام المعاصر. انطلاقاً من منطقة مازارا دل فالّو، التي تحتضن اليوم إحدى أهمّ الجاليات الإسلامية المشهورة في إيطاليا، والموقع الصقلي المطلّ على تونس، إفريقية قديماً (التي ينحدر منها اسم القارة: إفريقيا؛ والتسمية مع عديد الجغرافيّين والمؤرِّخين العرب، ضمّت صقلية أيضاً).
فالآثار المتعلّقة بالماضي العربي الإسلامي، منغرسة في أسماء المواقع المحليّة، ومنتشرة في شتى الأمكنة: فمن «مرسى علي» أو «مرسى الله»، صارت اليوم مَرْسالا، الطرف الغربي من تريناكريا، إلى «حلق القنطرة» التي تحوّلت في الحاضر إلى ألْكنترا، إلى مختلف الأماكن التي ضمت الجذر العربي لمفردة «قلعة»، والتي باتت كالْتانيسيتّا، كالْتابيلوتّا، كالْتاجيروني، كالْتافيمِي، كالْشيبيتّا، إلى كانيكاتّي «القطاع»، إلى فافارا المنحدرة من «فوّار، العين الجارية»، إلى شاكّا «السّاقية»، إلى ألْكامو، التي كانت تسميتها العربية «منزل القمح». حول هذه الأخيرة تروى حكاية شفوية متوارثة، واردة من القرون الوسطى، تنسِبُ الاسم إلى القائد هالْكامو، الذي ما إن حلّ بمازارا حتى أحرق جميع سفنه ليصدَّ نفسه ومن تحدّثه نفسه ممن معه عن العودة إلى الخلف. فقد هاجم سِلِينونْتي وغَلّى بعض الأهالي أحياء في إناء من نحاس، حتى يبثّ في قلوبهم الرعب، ثم شيّدَ قلعة حملت اسمه.
كانت الآبار والنواعير أساس نظام الريّ والأكثر تطوّرًا حينها، وهو ما سمح بتطوير زراعة النخيل وجلب القوارص والفستق والموز والمرّ والزعفران والقطن وقصب السكر. وما الذي نقوله عن الفولكلور: فبين عديد الأمثلة، نجد نوادر جحا، التي تحاكي قصص جحا العربيّ، «كبير الحذاء بليد الذهن» في ما يشبه بيرتولدو وكنديدي لدينا، وهو ما يرد بإسهاب في الروايات الشعبية. نستحضر أيضاً الآثار الباقية من العمران (القصبة بمنطقة مازارا، التي باتت اليوم تحتضن الأحفاد الجدد لسكّانها القدامى)، من الأنشطة التجارية، إلى عديد العوائد الشائعة، بل في اللغة أيضاً وفي عوائد التحية، فليس عرضاً أن نجدَ «سلامليكّي»، المحرّفة عن «السلام عليكم»، التحية العربية التقليدية. نستحضر كذلك تعابير تُعَدّ من ميزات لهجة صقلية، مثل «لنقبّل الأيدي»، أو «البركة في سيادتك». إلى حدّ الألقاب العائلية، التي يضيق المجال لعرضها، من بوشامي إلى كنْجامي، إلى مرابطو، إلى شُرطينو، إلى عِزّو إلى رسولّو، أو تلك الأسماء المركَّبة بإضافة اسم الله، مثل فراجالا، وزابالا، وفادالا وغيرها كثير، حيث كلمة الله جلية في آخرها. يبدو جديراً تتبّع هذا التاريخ من أصوله.
كانت صقلية الفتحَ الأخيرَ للإسلام العربي في أوروبا، تلت توطّن الإسلام بالأندلس بُعيْد قرن من الفتح. مكثت فيه إسبانيا ترزح تحت السيطرة الإسلامية ما يناهز ثمانية قرون (بالضبط من العام 711م إلى 1492م، وإن كان بأزمنة وأشكال مختلفة من منطقة لأخرى)، وهو ما خلّف حضارة شامخة، ما زالت آثارها إلى اليوم زاهية. لا تضاهى مقارنة صقلية بذلك الفضاء، مما تبقى من آثار بادية للعيان في فنّ المعمار، ففي صقلية أقلّ بكثير مما نجده بالأندلس: ولكن في العموم يتعلّق الأمر بذاكرة تحتاج إلى الاكتشاف على غرار ما نجده بالأندلس. كما نجد النظر إلى الفتْحيْن في العالم الإسلامي نفسه مختلفًا. كتب ريزّيتانو: «إن كانت الأندلس في التاريخ العربي اِحتلّت ما نسمّيه باللّغة الصحفية المقال المعمّق ضمن تاريخ المغرب، فقد خصّصَ المؤرّخون المسلمون لأحداث صقلية، روايات متواضعة، ما يشبه روايات الهامش». كلتاهما، صقلية والأندلس، شملهما فتحٌ يعود إلى عائلات محدّدة ومستقلّة بشكل ما، وأحياناً عُدّت مبتدعة من قِبل الإسلام السنّي، الخاضع في تلك الحقبة إلى الخليفة العباسيّ في بغداد. نجد في صقلية أساساً الأغالبةَ العربَ، والفرسَ، والأمازيغَ، ممّن شكّلوا الموجة الأولى من البعثة الإسلامية، فقد كان الحاكم مستقلاً، حتى وإن والى ظاهراً الخلافة في بغداد. ترافق ظهور الأغالبة في القرن التاسع الميلادي، مع اعتلاء كارلو مانيو العرش، كان ذلك بموافقة الخليفة هارون الرشيد على الحاكم إبراهيم بن الأغلب من إفريقية، بالسماح له بتوارث الملك؛ ثم خَلَفهم الفاطميون وقد شكّل عهدهم بحسب المؤرِّخ الإيطالي فرانشيسكو غابريالي «العصر الذهبي للإسلام في صقلية»، إلى الكلبيّين المرتبطين بالفاطميّين، ممن انتسبوا حقّا أو زورا إلى فاطمة، ابنة النبي محمّد (صلى الله عليه وسلم) وزوج الخليفة الرابع علي، وممن ينتمون عموماً إلى الشيعة. في حين حكم في إسبانيا خصومهم الأمويون، الذين سرعان ما أقاموا إمارة مستقلة، ثم تلاهم المرابطون، وأخيرًا أتى الموحّدون، الذين رافقهم تصاعد نفوذ الأمازيغ، وقد شهد عصرهم ازدهاراً ثقافياً ملحوظاً، بلغ أوجه، وكما يحدث عادة، أثناء الفترة التي سبقت التراجع واندلاع حروب الاستعادة التي انتهت بطرد الموريسكيّين. لم يبق سوى التباكي على الأطلال عن حضارة فريدة من نوعها فعلاً، سواء في تسامحها أو في انفتاحها الفكريّ، على الأقلّ بحسب ما كان معهوداًي تلك الفترة؛ الآثار الباقية لمسجد قرطبة، وقصر الحمراء، وغرناطة، وطليطلة، وإشبيلية، شاهدة على ذلك الإرث، الذي لم يبق ما يضاهيه من آثار شامخة في صقلية.
يعود تاريخ الغارة العربية الأولى على صقلّية إلى الفترة المبكّرة من تاريخ الإسلام، بالتحديد إلى العام 652م، أي العام الثلاثين من التقويم الهجريّ، نسبة لهجرة النبي محمّد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من مكة إلى المدينة منطلق التقويم الإسلامي، وعلى بعد عشرين سنة من وفاة نبيّ الإسلام. ثم تتابعت المغازي، في العام 700م مثلاً، تمّت مهاجمة جزيرة بنْتَلاّريا وأُفْني من فيها من السكان، ولغرابة الأقدار فإنّ أصول هؤلاء تعود إلى قرطاج وأوتيك في شمال تونس، من المسيحيّين الذين فرّوا من الفتوحات الإسلامية الأولى لإفريقية. وفي سنة 705م تعرّضت سيراكوزا للنّهب. لكن لم يتسنَّ فتح المدينة سوى بعد قرنين، وبعد ثمانين سنة من النزول بمازارا، الذي حصل سنة 827م، بعد مقاومة عنيفة. تَمّ فتح باليرمو سنة 831م، ثم مِسّينا سنة 842م، وراغوزا سنة 849م، وإينّا سنة 859م (من باب التذكير أثناء الحصار الأوّل للمدينة، سنة 829م، ضُرِبت العُمِلةُ الأولى التي تحمل اسم «صقلية» مع ذكر العام الهجري) وسيراكوزا سنة 878م، وأخيراً تاوِرْمينا، آخر قلاع المقاومة المسيحية، التي انتزعت بعد معارك دامية سنة 902م، أي العام 280 من التقويم الهجري. كَتَب إركيمبيرتو، أحد رهبان مونتيكاسينو في القرن الحادي عشر، عبارات بليغة واصفًا بها الفتح العربي: «في ذلك الزمن، كان العرب يُشبِهون خليّة النّحل، بأيادٍ ذات بأس شديد، وفدوا إلى صقلية من بابل وإفريقية. اجتاحوا كلّ شيء في البلاد المجاورة، وأخيرًا انتزعوا مدينة باليرمو الشهيرة، التي باتت محلَّ سكناهم في الوقت الحالي، وفي تلك الجزيرة سقطت عديد المدن والقرى، وفي وقت قليل أذعن الجميع لسلطانهم».
باتت صقلية تابعة للمجال الحيويّ السياسيّ والثقافي الإسلامي في ذلك العهد. فقد كان جوهر الصقليّ، مثلاً، قائد جحافل قوات الخليفة الفاطمي المعز لإخضاع مصر، التي شهدت بناء الحاضرة الجديدة القاهرة سنة 969م. وكان الإمام المازري، المولود بمازينا، من أسس بيت الدراسات الفقهية الشهير بمدينة المهدية.
لعبت السياسة دورًا حاسمًا في توحيد الجزيرة وضمّها تحت الحكم الإسلامي، كان ذلك تحت رغبة الخليفة التي نفّذها الأمير أحمد، فقد أسّس في كل مقاطعة مدينة حصينة أقام فيها مسجدًا، ودعا الناس إلى العيش بداخلها وليس في قرى متناثرة: وهو ما ساعد على المراقَبة والدفاع، فكان بذلك الشكل أن طوّرَ إيرادات الدولة المالية، وخلطَ كذلك السكان المسيحيّين بالمسلمين، كما شجّع التعليم الديني وبالتالي اعتناق الإسلام.
انتهى الفتح العربي مبكّرًا. ففي القرن الأول من الألفية، أثناء صراع بين السادة الأعداء، حين يبحث أحدهم، كما يجري عادة، بالاعتماد على قريب قويّ، ربما عدو الأمس، لحلّ الخلافات الداخلية التي قد لا تنتهي إلا على مستوى عسكري. فالقريب الذي يشكل مشكلة، فضلاً عن أنه قوي، هو مربك وله أهداف جدّ محدّدة: هكذا بدا روجيرو النورماني حينها رفقة الأخ روبارتو غويسكاردو، حيث نزلا بجنوب مسّينا سنة 1061م، واستعادَا باليرمو سنة 1072م وستنتهي بعد ثلاثين سنة من مقدمهما، بالسقوط المشهور سنة 1091م، حقبة الوجود الإسلامي واسترجاع الجزيرة. وحتى وإن مرّت عسكريًا إلى أيدي النورمان، فقد بقيت الجزيرة تحت التأثير الواسع الثقافي والإداري للإرث العربي الإسلامي، سواء أثناء حكم النورمان أو تحت فترة الحكم السفيفي.
حازت الصورة اللامعة والمنفتحة للإمبراطور فيدريكو الثاني، أهميةً جليّةً لدى عديد المؤرّخين. فقد احتفظ بين عناصر جيشه، كسابقيه، بحرّاس ثقاة من السراسنة، من المحاربين الأوفياء، وعارض أيّ مسعى لتحويلهم عن دينهم. لكن بالخصوص مستشاريه من العرب هو دلالة على بُعْد نظره السياسي، فضلاً عمَّا ولاّهم من دور تنظيميّ وتثقيفيّ، كما كان بلاطه محل استقطاب للعلماء، ومنتدى للحكماء، المسيحيين واليهود والمسلمين. لقد كان الإمبراطور شغوفا ومتّقد الذكاء، كما تكشف عن ذلك «أسئلته الفلسفية» التي كان يدلي بها للعلماء من كافة المشارب، مع تفضيل للعرب من بينهم.
يوافق العام 511 هجري 1133 من التقويم الميلادي، وهو العام الذي تُوِّج فيه روجيرو الثاني في باليرمو، أصغر الملوك سنّا في ذلك العهد، وابن الكونت النورماني روجيرو الأول، غازي الجزيرة، والذي كان يستحسِن مناداته باللقب العربي المعتز بالله. بشكل عامّ يمكن قول، في سياق ما قاله المؤرخ الكبير نورمان دانيال، كانت صقلية النورمانية الدولة الوحيدة التي تميزت بالتعددية الثقافية والتسامح في القرون الوسطى. فضلاً عن ذلك نجد مصدراً آخر موثوقاً، ذلك العائد للمسلم ابن جبير، أصيل غرناطة. فقد روى عن غوليالمو الثاني (المنعوت بالطيب) الذي كان يعجّ قصره بالغلمان والخصيان المسلمين. وحتى وإن أعلنوا شكلياً تنصُّرهم، فقد كان بوسعهم ممارسة شعائر دينهم الإسلامي في حضور الملك نفسه، أكان صومًا لشهر رمضان أم أداءً للصلوات الخمس. في حين كانت جواري القصر، كلهنّ من المسلمات، وقد هَدَيْن نساء أخريات من الفرنجيات إلى الإسلام (العبيد يبدّلون دين السادة ...). كما كان حرسه الخاص من المسلمين، وكانت قيادتهم تحت إمرة مسلم. كان غوليالمو الثاني مثل فيدريكو الثاني يعرف العربية، كما كان مستشاروه من الحكماء والمنجِّمين المسلمين. كان لقبه المعتزّ بالله. كلّ تلك الفضائل لا يعود شأنها إلى دين الإسلام فقط، بل إلى التسامح النيّر لهؤلاء الملوك المسيحيين.
لم يمنع ذلك التسامح البعيد النظر فيدريكو الثاني من إخماد الانتفاضات الإسلامية الأخيرة بيَدٍ صارمة، بدءاً من تلك الانتفاضة العارمة، التي قادها محمّد بن عبّاد («المرابطوس» كما يرد ذكره في النصوص التاريخية اللاتينية). تمّ إخماد تلك الفتن، ورُحِّل جزء ممن بقوا على قيد الحياة إلى منطقة أخرى على شبه الجزيرة، وهي ما صارت تُعرف بطائفة لوشيرا المسلمة، وجزء آخر منهم تمّ دمجهم عنوة. يعود ذلك إلى الإمبراطور الذي أبدى تعاطفاً مع العرب والإسلام، في توحيد صقلية على المستوى السياسي، والديني المسيحي، واللغوي أيضاً. فمنذ تلك الفترة عادت الجزيرة مسيحية. انتهى مصير السراسنة ليمثّلوا المغايرة بامتياز، وليتقمّصوا صورة العدو، فصيغت حولهم عديد الحكايات الفولكلورية، وتطوّرت ثقافة شعبية ما زالت تروى ومتوارَثة إلى اليوم.
كان الحضور العدديّ الإسلامي غفيرًا. يُرجَّح وجود نصف مليون نفر من العرب والأمازيغ في الجزيرة، جالية كبيرة في مقابل مليون أو مليونيْن من «الأهليّين» المسيحيّين. أمّا اليوم فلا يمكن لعشرات الآلاف من العرب الموجودين بصقلية، أن يضاهوا أسلافهم، لا في العدد ولا في العدّة، من حيث الثراء والقوة. حتى وإن توافدوا من الربوع نفسها تقريباً. علمًا بأنّ صقلية هي المنطقة الوحيدة في إيطاليا التي تفوق فيها الجالية التونسية نظيرتها المغربية عددًا، وكما شاهدنا، فعلاً من تونس، المسماة إفريقية سابقاً جاء الفاتحون في الزمن الماضي.
ربما كان مكان الاتصال الوحيد الذي تبقّى، ولو على فترات متقطعة، وفي الوقت نفسه مثقلاً بالرمزية والمعاني، جزيرة لمبيدوزا. فقد بقيت الجزيرة محلّ خلاف وتعرّضت للنهب المتكرّر عديد المرات من قبل السراسنة (سنة 812م أبادوا الكثير من الأهالي، لكن بالمقابل، وفي وقت قريب، جرت إبادتهم من قِبل القوات البيزنطية). هنا على الأقلّ، تقريباً حتى حدود منتصف القرن السادس عشر، كان معتادًا مشاهدة بحارة مسيحيين ومسلمين (يمكن أن تعني الكلمة قراصنة أيضاً، الملاعين السراسِنة) يتبرّكون ويقدمون الصدقات في المغارة المقدّسة للعذراء مريم، كما تروي إحدى الكتابات المسيحية عن تلك الفترة، «ذلك الذي يبقى محلّ لفت نظر أنّ القراصنة الأتراك، أعداء ديننا وأعداء البشرية قاطبة، لا يجلون ويحترمون ذلك المكان فقط، بل يتبرّكون به ويقدّمون الصدقات بورع وإجلال يفوقون فيه المسيحيّين». ثم حلّت فترة الصدامات الكبرى بين العالميْن الإسلامي والمسيحي -ليبانتو 1571م-، فكفّت تلك الزيارات الدينية نهائياً. لكن اليوم مع مسلمين آخرين من جديد، في تلك الربوع من المتوسط، يبدو رمزًا صعبَ التناسي. ليس أملا وليس منْيَة: لا شيء من ذلك ولا شيء أقلّ مما جرى، إنه رمز يستحقّ التأمّل. ربما، ونحن نشاهد المهاجرين غير الشرعيّين ينزلون في جزيرة لمبيدوزا، تتقاذفهم الأقدار ويجذبهم سراب الغرب، بعد أن ألقى بهم السماسرة دون أن يبالوا على سواحل الجزيرة، وبعد أن وعدوهم أنهم سيرسون بهم على السواحل الإيطالية، على حدود أوروبا الهشة التي يمنّون أن تكون مرساهم. ينزل عشرات الوافدين شهريّا. تجليات تراجيدية للعيش البائس هناك: في ما يشبه رواية الملهاة لمشهد ربما يليق ببيرانديللو. ذهبَ في ظنّ أحد القادمين الجدد إلى الجزيرة أنّه حطّ الرحال أخيراً بجنوب إيطاليا، سرق سيارة ممنّياً النفس ببلوغ الشمال الموسر، قام بدورة داخل الجزيرة، وقبل أن يتنّبه يائسًا وجد نفسه قد عاد من حيث انطلق فوجد الشرطة بانتظاره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.