للدكتور حسن البنا عز الدين ابحاث ودراسات جادة حول «شعرية الكتابة، ثقافة القراءة» حيث يدعو من خلال ورقته التي ألقاها مؤخرا في جمعية الثقافة والفنون بالطائف وأثارت حولها تساؤلات، يدعو الى مفهوم جديد واكتشاف ملامح الوعي الكتابي في الشعر العربي القديم وقد كتب الدكتور حسن في السنوات الأخيرة مقالات صحفية حول هذا الموضوع وفي هذا اللقاء الذي اجريناه معه تحدثنا نحو أدوات الكتابة واهميتها في تدوين التراث والفكر وكيف مر الشعر العربي بمراحل في تدوينه وخصوصا من المرحلة الشفوية الى المرحلة الكتابية خصوصا وان الباحث يركز في دراساته على أهمية الكتابة في مجال * في البداية دعنا نسألك عن ما هو مفهوم الوعي الكتابي وماهي اهم ملامحه في الشعر العربي؟ في الواقع يلخص هذا السؤال موضوع الكتاب الذي اضع اللمسات الاخيرة له وهو بعنوان «شعرية الكتابة، ثقافة القراءة، مفهوم الوعي الكتابي وملامحه في الشعر العربي القديم»، وقد شغلت بموضوع الكتاب في السنوات الست الاخيرة وكتبت فيه مقالات نشر بعضها في «الجزيرة» ولأن المصطلح جديد، بمعنى ان أحدا آخر لم يستعمله بهذه الصيغة فإنه في حاجة الى توضيح دائم. وقد افدت كثيرا من ردود فعل كثير من القراء والجمهور الذي حضر بعض الندوات والمحاضرات التي ألقيت فيها فكرتي في محاولة العرض الواضح للمفهوم والفكرة والملامح. وباختصار شديد يمكن ان نقول ان مفهوم الوعي الكتابي صورة مطورة ومعدلة لمفهوم الوظيفة الشعرية عند ياكبسون، وهي تعني عنده تركيز المرسل «الشاعر مثلا» على الرسالة «القصيدة» التي ينقلها الى المرسل إليه «القارىء أو المتلقي». فعندما يركز الشاعر على القصيدة نفسها، أي يتحدث عنها ولا يجعلها تتحدث عنه نكون امام حالة «وعي كتابي». والتطوير او التعديل لمفهوم ياكبسون هنا يتحدد في استكشاف ملامح التركيز على الرسالة/ القصيدة على نحو يشكل رؤية متكاملة للشعر وللعالم «الكون والمجتمع» والذات. وهكذا نستطيع ان نرصد ملامح الوعي الكتابي من خلال تركيز الشاعر على رؤية الشعر والقصيدة والكتابة من خلال الطبيعة «وتشمل هنا الاطلال والنجوم والكواكب والنهر والأرض والبرق وغيرها، كما تشمل حيوانات شعرية مثل الناقة والغرس وطيور شعرية مثل الصقر والحمام» ورؤية الطبيعة نفسها من خلال الشعر والقصيدة والكتابة، وكذلك الامر مع الثقافة التي تشمل هنا الجسد والزمن والخمر والسيف والقلم والمكتوب والشعر والقراءة. وليست هذه بالطبع هي الملامح الوحيدة للوعي الكتابي. ان هذه أوضحها وأقربها وان لم تكن مستكشفة على نحو كاف من قبل القدماء والمحدثين مع أنهم أشاروا إليها اشارات رائعة وفي غاية الأهمية مما لفت نظرنا اليها. أما الملامح الاخرى فمنها مثلا النفس عندما تكون موضوعا للتأمل في الشعر. فهنا نكون أمام ملمح مهم من ملامح الوعي الكتابي في الشعر العربي. وقد كتبنا عدة مقالات في الجزيرة تحمل هذا العنوان قبل سنتين. * الشعر العربي اختزل في ثنايا قصائده أدوات الكتابة وأهميتها في تدوين التراث والفكر. كيف تم ذلك؟ ان هذا السؤال نفسه سؤال ذكي يكشف عن بعد آخر من أبعاد ما نقصده بالوعي الكتابي في الشعر العربي. فلو فهمت سؤالك على ان الشاعر القديم كان على وعي في قصائده بأدوات الكتابة وأهميتها التدوينية فيمكنني ان اقول ان كل شاعر ذي رسالة «فكرية» في شعره يتوقف عند الكتابة بوصفها أداته الوحيدة في ايصال فكرته. ولكن الكتابة لا تتوقف هنا عند كونها أداة توصيل بل تصبح موضوعا للتأمل وكيف انه بدونها لا فكر انساني او شعر يمكن ان يعيش عبر الزمن ليؤدي رسالته. وهكذا يصبح حديث الشاعر عن الكتابة في مثل اهمية الكتابة نفسها، ويعكس في الوقت نفسه درجة بعينها من وعيه الكتابي. ومن هنا كذلك نجد شعراء عنوا بهذا الحديث وشعراء اهملوه تماما. * الشعر العربي مر بمراحل في تدوينه من المرحلة الشفوية الى المرحلة الكتابية. حدثنا عن تلك النقلة المهمة؟ هذه النقلة المهمة حقا اشبه بالخضرمة في الشعر، اي هي مرحلة بين مرحلتين: الاولى وعي بالكتابة دون كتابة «مثل وعي بعض الشعراء الجاهليين بالاسلام قبل اسلامهم»، فمعظم الشعراء قبل الاسلام لم يكونوا يكتبون او يقرأون، ومع ذلك كانوا يعرفون ما هي الكتابة ويرون أمماً أخرى تكتب وتقرأ من حولهم مثل الفرس والروم واليمن. وهنا قد لا يمثل هذا الوعي اهمية كبرى لانه لا يعكس استيعابا للموضوع بقدر ما يعكس معرفة بوجوده. والمرحلة الأخرى هي مرحلة الوعي الكتابي وهي تتصل عادة باستيعاب الكتابة والقراءة بصورة فعلية، ولكن ليس كل من يكتب ويقرأ من الشعراء يكون لديه بالضرورة وعي كتابي بدرجة عالية، كما انه ليس كل من لا يعرف الكتابة والقراءة لا يكون لديه درجة وعي كتابي بالمرة. فأنا أرى مثلا ان امرأ القيس اكثر وعيا كتابيا في شعره من البحتري على الرغم من عدم معرفة امرىء القيس بالكتابة والقراءة في مقابل اجادة البحتري لهما. فهذه النقلة المهمة من الشفوية الى الكتابية لها إذن بعد تاريخي، يتعلق بوجود كتابة وخط مؤسس يسهل تعلمه وتداوله كما ان لها بُعداً لا تاريخي يتصل بمدى قدرة كل شاعر على وضع شعره ونفسه وعالمه موضع تأمل عميق بوصفه شاعرا يستخدم اللغة بوصفها وسيلة وغاية لتوصيل تأمله الى الجماعة اذا جاز التعبير. * ماذا تقصد بالوعي الكتابي؟ دعني أحاول الاجابة عن السؤال بمثل شعري. فلنأخذ شاعرين يتحدثان عن «النفس» مثل علقمة الفحل وتأبط شرا. يقول الاول في مدح الحارث بن شمر: تجود بنفس لا يُجاد بمثلها وأنت بها يوم اللقاء تطيب فالشاعر هنا يتكلم عن نفس الممدوح الغالية ومع ذلك يمكن ان يضحي بها صاحبها اذا لم يجد مفرا من ذلك، وهو يطيب نفسا بنفسه عند لقاء الأعداء لأنه ينتصر عليهم وفي الحالة الأخرى يقول تأبط شرا عن نفسه: ولا أقول إذا ما خلة صرمت يا ويح نفسي من شوق واشفاق فعلى الرغم من ان الشاعرين استخدما عبارة جاهزة للكلام عن النفس فان وعي الشاعر بالنفس في شعره، كما في الحالة الاولى، شيء وان يجعل النفس موضوعا للوعي، كما في الحالة الثانية، شيء آخر. الشاعر في الحالة الاولى يتكلم عن النفس بصورة اقرب الى الموضوعية، اذ هي نفس شخص آخر على اي حال. لكنه في الحالة الاخرى يتكلمها شعريا، اذا جاز التعبير اذ يراها بوصفها آخر وبوصفها «ذاته» في الوقت نفسه. في الجملة الشعرية الاولى «النفس» مدركة بوصفها موضوعا للتضحية، وفي الجملة الثانية النفس مدركة بوصفها فاعلا ومفعولا في الوقت نفسه. أي جزءا من الذات المتكلمة وموضوعا للكلام في الوقت نفسه. «الوعي الكتابي» إذن ليس مجرد وعي بالكتابة تبقى فيه مسافة موضوعية بين الشاعر/ الكاتب والشعر/ الكتابة، اذ تحل محلها مسافة ذاتية اذا جاز لنا القول، ومن ثم تتميز المعرفة التي ينتجها هذا الوعي. إنها معرفة شعرية ذاتية من داخل الشعر وليست معرفة نقدية داخل الشعر. * درجة الوعي الكتابي تختلف من شاعر الى شاعر. كيف تم لك رصد تلك الظاهرة؟ بالطبع يمكننا ان نرصد درجة الوعي الكتابي بصورة كمية، أي بملاحظة مدى انتشار ملامح الوعي الكتابي في شعر شاعر ما بالقياس الى شاعر آخر. ولكننا يمكن بذلك ان نلاحظ عمقا في درجة الوعي الكتابي عند شاعر ما بالقياس الى شاعر يسرف في الاشارة الى ملامح الوعي الكتابي دون عمق ملحوظ ذلك ان الوعي الكتابي يرتبط بمفهوم معقد للكتابة في النقد الأدبي المعاصر. فالكتابة توجد في هذا النقد قبل الكلام وبعده. وهنا مرة اخرى نرى بعض الشعراء الجاهليين في وقوفهم على الاطلال التي تشبه بالكتابة المتجددة، مثل امرىء القيس وعبيد بن الابرص وامرىء القيس بن عابس، اكثر عمقا في درجة وعيهم الكتابي من شعراء عاصروا الكتابة بعد الاسلام ووقفوا على الأطلال مثل الشماخ بن ضرار والراعي النميري، وشعراء عباسيين مثل البحتري. * ما هي أهمية الكتابة الحديثة على الأطلال القديمة في القرن الاول الهجري، وهو موضوع يبدو موضع تركيز في عملك الراهن؟ المقصود بالكتابة «الحديثة» على الاطلال «القديمة» في القرن الاول: أي صورة الكتابة بعد الاسلام، على الاطلال «القديمة»، أي ذات الصبغة الجاهلية والتي استمر ورودها في نسيب القصائد في الشعر بعد الاسلام فيما يسمى بقصيدة النسيب التقليدية، وذلك لمدة قرن على الاقل. وقد بحثت في هذه المسألة عند ذي الرمة في كتاب صدر لي مؤخرا عن هذا الشاعر. وقد لاحظت انه يأتي في شعره بصورة الكتابة الحديثة، أي المفهومة المبينة «وتمثلها فكرة الاعجام بمعنى الابانة» في مقابل فكرة الكتابة القديمة، اي غير المفهومة «المعجمة» التي كانت شائعة لدى الشعراء الجاهليين في صورة الأطلال. وقد حرص ذو الرمة على الجمع بين الكتابتين عن قصد ليخلص الى ان الماضي والحاضر يحاصران الانسان وعليه دائما ان يوفق بينهما واذا عجز عن ذلك فقد يكون ذلك موقفا في حد ذاته، اي يقف على الحد الفاصل بينهما دون قدرة على العيش في اي منهما. ولكن ربما كانت الكتابة «القديمة» على الأطلال الحديثة، اي صورة الكتابة بمعناها المطلق في عمقها الانساني المغرق في القدم، على الأطلال «الحديثة»، اي تلك التي تشير الى اطلال ذات طابع اسلامي في مقابل الأطلال ذات الطابع الجاهلي التي ترد في قصيدة النسيب التقليدية، ربما كانت أكثر اثارة بعد نهاية الربع الاول من القرن الاول الهجري. نستطيع ان نجد أمثلة قليلة، ان لم تكن نادرة، لاستخدام صورة الكتابة في الأطلال في القرنين الثاني والثالث للهجرة. ولدينا هنا امثلة من تلك الحقبة لأبي تمام، وابن المعتز، وابي الشيص وعلي بن جبلة، والعنبري الأصفهاني، وسوف نلاحظ ان هذه الصور جميعا تنبىء عن تنامي الوعي الكتابي من خلال الكتابة «القديمة» على الأطلال «الحديثة»، في اشكال ابداعية جديدة، تأخذ من القديم بقدر ما تعي من «جدّته» الذاتية، اي ما يصلح منه ضمنيا لراهنية الشعور بالفكرة نفسها، واعطائها تصورا «حواري» الطابع مع الذات بوصفها آخر ومع الآخر بوصفه ذاتا. مع الأخذ في الحسبان ان ليس ثم عملية انتقائية واعية من قبل الشاعر. فالشاعر يشكل الماضي بقدر ما يعيه بشكل لا واع، اذا جاز لنا القول. وتتلخص بعض الصور النادرة للكتابة هنا في يمكن تسميته بكتابة الشعر على الحيطان. ونبدأ بحكايتين قصيرتين تنتمي احداهما على الأقل الى القرن الثاني نفسه بحكم وقوعها في بغداد. وقد بدأ اسامة بن منقذ كتابه «المنازل والديار» بواحدة من هاتين القصتين، تحكي عن مرور احدهم بسويقة عبد الوهاب، «وهي محلة قديمة بغربي بغداد»، وقد خربت، وعلى حائط منها مكتوب: هذه منازل اقوام عهدتهُمُ في خفض عيش وعزٍّ ما له خطر صاحت بهم نائيات الدهر فانقلبوا إلى القبور فلا عينٌ ولا أثر فلوحة الكتابة «المادية» هنا أشبه بترجمة شعرية. اذا جاز التعبير، لصورة الكتابة القديمة في الأطلال، ولكنها هنا على أطلال «حديثة» «فعلية»، على حائط منها مكتوب. ويكرر ابن منقذ الامر نفسه في النصف الثاني من كتابه، من فصل في ذكر الدار، في حكاية اخرى، ارسل فيها الرشيد الى الاصمعي على فزع بليل. فلما ذهب إليه «فاذا هو قاعد في اقصى مجلسه، وبين يديه دواة وقرطاس، وهو يبكي بسبب «بيت» من الشعر لابن ذي سلم عند موته، وهو: لم تحتقب غير اثواب يمزقها ريب الزمان وطول العهد والقدم ولما اراد الاصمعي ان يسلي امير المؤمنين اقترح عليه ان يحدثه بحديث وشعر قرىء على بعض القبور. ثم اخذ يحكي له قصة غزو جماعة ما في البحر، فإذا بالسفينة تميل بهم الى جزيرة فإذا هم «بقصر شاهق، والى جانبه قبر، وعلى القصر بابان، وبين القصر والقبر فسيل نخل لم أر شيئا احسن منه، فإذا على القصر مكتوب: «....» والمكتوب أبيات من الشعر عن هذا «الفسيل» على القصر ووجهه. كما ان على كل من بابي القصر بيت شعر كذلك عن المدائن الخاوية والموت، والقرون التي غفلت عن حظها، ولم يملك راوي القصة التي نقلها عنه الاصمعي ان استشهد بالتالي ببيتي شعر من القبيل نفسه. وتنتهي الحكاية ببكاء الرشيد وصراخه حتى الصباح، وتوزيعه الاموال الجليلة على الفقراء والمساكين. بالاضافة الى الاصمعي. فهذه القصة وسياق إيرادها في كتاب ابن منقذ يدلان على ما نقوله من جهة الوعي الكتابي «الحديث» بفكرة الأطلال في شكل «كتابي» مادي وشعري في آن. فالمؤلف نفسه يجمع في كتابه، في هذه المواضيع وغيرها بين الاشعار القديمة التي قيلت في الاطلال وفيها صورة الكتابة المعروفة من جهة، والاشعار والقصص «الحديثة» التي يقوم فيها الشعر والكتابة والمكان/ الطلل بالادوار الاساسية من جهة اخرى وقد نلاحظ ان ابن منقذ «ت 584ه» نفسه، وهو شاعر جيد، يمارس العملية نفسها في القرن السادس الميلادي فيكتب بعض اشعاره على بعض الحوائط مثل حائط بظاهر منبج وهو في طريقه الى الحج، او مسجد سيرين بظاهر مدينة حلب، او على حائط دار بمدينة صور وقد تهدمت وتغير زخرفها. ولا شك ان ظاهرة كتابة الشعر على الحيطان، سواء من قبل الشعراء او غيرهم، ظاهرة «كتابية» تستحق ان ترصد وتدرس في مقام خاص بها. واود ان أنهي هذا الحوار بالتذكير بما قاله بعض المعاصرين من ان ما نفتقده في النظرية، نراه في النص الابداعي وما قاله شاعر غربي معاصر من ان «أيا كانت فلسفة الشاعر، ومهما كان امتداد معناه واسعا.. فإنك ستعرفه عن طريق لغته، ان نوعية لغته هي الحد الساري لما لديه ليقوله: «ولعلنا نستطيع ان نتأمل قول بشر بن الحارث «ت 227ه» وهو يكشف بطريقته عن الفكرة نفسها التي حاولت ان اكشف عنها في الشعر العربي اعني؛ فكرة الوعي الكتابي في شقيها، بعديها الانساني وما فوق الانساني. يقول بشر: «لسان الانسان قلم ملكه الموكل به، وريقه مداده، وقرطاسه جلده، يملي عليه كتابا إلى ربه. فلينظر الانسان قبل فوت النظر ماذا يملي».