يطيب للإسرائيليين بين الحين والآخر مقارنة إسرائيل بأثينا في حربها مع الامبراطورية الفارسية، وببريطانيا عندما وقفت وحدها ضد دول المحور خلال الحرب العالمية الثانية. إلى جانب هذه المقارنة يحلو لأنصار بنيامين نتانياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، مقارنته بونستون تشرشل الذي بدا خارج سربه بين الساسة البريطانيين عندما دعا إلى اعتماد الخيار العسكري ضد ألمانيا، ووحيداً بين زعماء الغرب عندما قاد بلاده إلى الحرب ضد دول المحور. في السياق ذاته، يذهب أصحاب هذه المقارنات إلى تشبيه باراك أوباما بنيفيل تشمبرلن، رئيس الحكومة البريطانية الذي عقد معاهدة سلام مع هتلر وقدمها إلى شعبه وإلى العالم على أنها المعاهدة التي «ستضع حداً للحروب إلى الأبد». من هذه المقارنات، يستنتج أصحابها، مجدداً، أن إسرائيل هي التي تضيء للبشرية طريق الخلاص، وأنه إذا أرادت الشعوب والدول المتحضرة الحفاظ على منجزات الحضارة العالمية، فعليها الانضمام اليوم إلى أثينا العصر الحديث، وبريطانيا القرن الواحد والعشرين في التصدي للاستبداد الشرقي ممثلاً بالنظام الإيراني، هذا بعد التخلص، بالطبع، من التشمبرلينيين الجدد ومن نظرياتهم السلامية والاتفاقات الفاوستية التي يعقدونها مع الأنظمة والحكومات «الناشزة». بينما ينتظر أصحاب هذه المفارقات استيقاظ العالم المتحضر وانضمامه إلى صراع إسرائيل الأسطوري (داود ضد جوليات الجبار)، فإنهم يرون أن من المفيد بل من الضروري حمايتها وتحصينها ضد الخصوم والأعداء الإقليميين عبر تكوين التحالفات الإقليمية المناسبة. والتحالف الأقرب إلى الأذهان اليوم هو ما دعته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كوندوليزا رايس، «حلف البنائين» أي حلف يضم إسرائيل مع بعض الدول العربية التي تخشى توسع النفوذ الإيراني في المنطقة. إن الدول العربية المعنية قد لا تستوفي مضمون دفتر شروط شركاء إسرائيل ونظرائها في رحلة الترقي الداروينية، ولكن إسرائيل لا تجد غضاضة في مثل هذا الحلف طالما أنها، وحدها أو بدعم من العالم الأطلسي، تستطيع أن تضطلع فيه بدور قيادي. لقد عبر نتانياهو عن هذه النظرة من منبر الأممالمتحدة في مطلع شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عندما قال إن التحديات التي تواجه المنطقة قادت العديد من العرب إلى الاقتناع بأن إسرائيل ليست هي عدوهم، وأن هذا المتغير يوفر فرصة للتغلب على العداء التاريخي بينهم وبين الإسرائيليين وإلى بناء «علاقات جديدة وصداقات جديدة وآمال جديدة». تكتسب هذه الدعوة إلى إحياء وتفعيل «حلف البنائين» مصداقيتها، في نظر مؤيديه، من الاعتبارات التالية: 1- مضمون وصواب المقارنات المشار إليها أعلاه - في تقدير أنصار إسرائيل. 2- مكانة إسرائيل الدولية وقدراتها العسكرية الواسعة - في نظر دعاة «حلف البنائين» - مما يسمح لها بأن تلعب دوراً جدياً في الدفاع عن الوضع الراهن في المنطقة وعن دولها. وفي هذا السياق فقد ذهب نتانياهو في خطابه أمام الأممالمتحدة إلى التأكيد بأنه إذا «فرض على إسرائيل أن تقف وحدها، فسوف تقف وحدها». 3- إعراب إدارة أوباما عن استعدادها لدعم مثل هذا الحلف إذا لم يعرقل تنفيذ الاتفاق الدولي مع إيران. والباعث على هذا الموقف كما يرى أنصار الحلف، هو إدراك واشنطن لخطورة الفراغ الذي سيخيم على المنطقة مع الانغماس الأميركي المتزايد في شؤون شرق وجنوب آسيا، بقصد احتواء القطب الصيني الصاعد. كذلك تخوف إدارة أوباما من أن تعمد إيران إلى ملء هذا الفراغ ومن ثم تهديد مصالح الغرب الحيوية في منطقة الخليج بصورة خاصة. إذا كانت هذه هي مسوغات الحلف الذي ترغب إسرائيل في قيامه، فإنه محكوم عليه بالفشل منذ البداية. فإسرائيل ليست أثينا القرن الواحد العشرين. إنها كيان معزول عن أغلب شعوب العالم وعن العديد من حكوماته ومؤسساته الدولية. وصف دافيد ريمنيك، محرر مجلة «نيويوركر» الأميركية البارزة هذا الحال بقوله: «إن زعماء إسرائيل هم الأكثر نجاحاً بين الزعماء العالميين في عزل بلادهم عن المسرح الديبلوماسي العالمي». وإذا كان دعاة الحلف يعتقدون أنه إذا خاضت إسرائيل معركة سياسية أو حتى حرباً عسكرية، فان شعوب المنطقة سوف تنضم إليها في هذا الصراع، فعلى الإسرائيليين أن يتذكروا أنه ليس هناك صلة تربط بينهم وبين إسرائيل مثل الصلة التي كانت تربط بين المدن الهيلينية وأثينا والتي دفعت تلك المدن إلى الانضمام إلى أثينا عندما تصدت للحملة العسكرية الفارسية. بالمقابل فان الرابطة العربية التي تشد العرب إلى الفلسطينيين هي التي تربط شعوب المنطقة وليس رابطتهم مع إسرائيل. أما المقارنة مع بريطانيا خلال الحرب ومع تشرشل الذي حض على الحرب ضد النازية، فإنها تفتقر إلى الجدية أيضاً. فبريطانيا كانت غارقة في الحرب ورفضت عروض هتلر للسلام، بينما كانت المنظمات الصهيونية غارقة حتى الأذنين في التعاون مع النازيين سواء في «التطهير العرقي» لألمانيا وأوروبا من اليهود، أو في تفكيك ومحاربة اليهود الاندماجيين في دول أوروبا القومية. أما قدرات إسرائيل العسكرية والديبلوماسية التي تسمح لها بخوض الصراع منفردة لصد التحديات عن المنطقة، فهي أيضاً موضع شك. إن أكثر المحللين السياسيين والعسكريين، مثل غاري سيك، المدير التنفيذي الأميركي ل «برنامج الخليج 2000» يميلون إلى الشك في قدرة الولاياتالمتحدة على تدمير المنشآت النووية أو العسكرية الإيرانية. إذا كان هذا حال الولاياتالمتحدة فما بالك بدولة متوسطة القوة مثل إسرائيل؟ إن الإسرائيليين يذكرون هنا بتجربة تدمير المفاعل النووي العراقي. ولكن تلك التجربة تمت في ظروف مختلفة كلياً، من أهمها أن العراق كان يخوض حرباً ضارية مع إيران وأن همه كان منصباً على هذه الحرب فقط. ثم أن إيران استفادت من هذه التجربة بحيث جعلت من ضرب منشآتها النووية أصعب من ضرب المفاعل الذري العراقي بما لا يقاس. إن الغرض من المبالغة في تقييم قدرة إسرائيل على خوض حرب أحادية ضد إيران هو تسويغ قيام «حلف البنائين»، ولكن لها غرض آخر أيضاً ألا وهو التهويل على الولاياتالمتحدة حتى لا تترك إسرائيل وحدها وحتى لا تترك الإسرائيليين أمام «خيار ماسادا» مرة ثانية في التاريخ. أما الحقيقة فهي أن الإسرائيليين مهما بلغوا من التهور، فانهم لن يدخلوا حرباً إذا لم يضمنوا سنداً كاملاً من العالم الأطلسي. ما عدا ذلك فانهم مع خوض حرب ضد إيران وضد سائر أعدائهم الإقليميين والدوليين حتى «آخر جندي أميركي وأوروبي» إذا اقتضى الأمر. لو كان الأمر غير ذلك، لماذا أمسك الإسرائيليون عن خوض الحرب ضد إيران حتى هذا الوقت؟! هناك ولا شك مسوغ مهم للنظر في أوضاع المنطقة ولبناء التحالفات التي تحد من أوضاعها المتفاقمة وتعيد الأمن والاستقرار إلى دولها، وتفتح سبل الإصلاح والتطور الديموقراطي فيها. التحالف الطبيعي والمجدي الذي يحقق الغايات والأهداف المتوخاة منه هو التحالف بين الدول العربية، وإحياء مؤسسات العمل المشترك والعمل على تنفيذ قراراتها ومشاريعها. وبنفس المقدار الذي تسير فيه الدول العربية على هذا الطريق، من المستطاع بناء علاقات سوية مع دول الجوار «الطبيعي» مثل تركياوإيران واليونان وقبرص وإقناعها بالمصالح المشتركة التي تجمعها مع العرب. أما إسرائيل فلا مكان لها في مثل هذه التحالفات ما دامت تستقي سياساتها ومشاريعها وبنيانها من النظريات العنصرية ومن تقاليد الفتح والضم وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية، وما دامت تحتل الجولان ومناطق من جنوبلبنان، وتستخدم سلاحها العسكري لابتزاز الدول المجاورة وللتهويل على المجتمع الدولي لكي تزج بشعوبه ودوله في الحروب المهلكة. * كاتب لبناني